strong> مهى زراقط
25 أيـار هو الـــــــــتـــــــاريــــــــخ الذي ثبّتــــه فؤاد على جدول إجازاته السنوية. يعود خلاله إلى لبنان من الدولة العربية التي استقرّ فيها للعمل، ويمضي الإجازة كاملة في قريته الحدودية التي حرم منها سنين طويلة.
هذا الــــــــعـــــام، الزيارة مخــــــتــــــلفة، فهي تأتي بعد العدوان الاسرائيلي الذي حققت فيه المقاومة انتصارها الكبير. يقول لصديقه المصري قبل أن يسافر: «بقدر ما كان التحرير حدثاً كبيراً في حياتي، فإني لم أكن لأطمئن إليه لولا الانتصار الأخير الذي صانه».
فؤاد ليس مقاوماً، وإن احتفظت ذاكرته بعمل صغير «ساعد» خلاله مقاومي قريته. هو يؤكد أن حصته من التحرير والانتصار لا تقلّ عن حصة المقاومين، وهو الذي عاش معهم في وجدانه كلّ سني الاحتلال المرّة التي يستعيدها دوماً:

***


تنهي الجدة صلاتها سريعاً وتهرع من غرفة نومـها إلى غرفة الجلوس لتخطف كتاب الأدعية من حفيدها فؤاد الذي لم يتجاوز بعد الخامسة عشرة من عمره. «لا تقرأ أنت دعاء كميل، دع شقيقتك تفعل ذلك. قد يسمعك «اللحديون» (عناصر ميليشيا لحد) ويــــــــشون بك»، قالـــــــت له بتوتر ملحوظ.
لم يقتنع الفتى الذي وصل إلى قريـته المحـــــتلة قــبل يومـــــــين فقط هرباً من الحروب المندلعة في بيروت عام 1989. قـال لجـدته: «أنا لا أخاف من أحـد، أنا أدعــــــو ربي، هل هذا ممنوع؟».
لا يعرف فؤاد أن هذا ممنوع بالفعل. كلّ ما كان يعرفه عن الاحتلال أنه يجبره على الانتظار عند المعبر ساعات طويلة، لكن «ما إن ندخل القرية، يمكننا العودة إلى ممارسة حياتنا الطبيعية». كان ذلك عندما كان طفلاً يلعب في ساحة القرية، لكن سنوات الإبعاد القسري التي تجاوزت السبع جعلت منه فتىّ يُخشى منه و... عليه.
يستمع بغضب إلى شقيقته تقرأ دعاء كميل بلغة ركيكة، فيقرّر أن يخرج للسهر عند ابن خاله. «الساعة تجاوزت السابعة، ممنوع الخروج من البيت» تنهره جدته مجدداً. يغضب، يرتفع صوته شاكياً «أنا لا أخاف.. أنا لست في سجن... أريد أن أخرج». يرتفع صوت والدته الخائفة: «بل أنت في سجن، هل فهمت؟ أنت في سجن».
وحده دخول فاطمة، ابنة الجيران كان كفيلاً بوقف الصراخ المنبعث من البيت. عبر جدار حجري يصل البيتين، تسلّلت الصبيّة العشرينية حاملة كيساً من البزر الصغير لقضاء السهرة المملّة في قرية تكاد تكون شبه خالية من السكّان. تجلس قرب فؤاد وتروح تحدّثه عن نظام الحياة في ظلّ الاحتلال: «لا يمكننا التجوّل بعد الساعة السادسة، قبل مجيئكم بأسبوع توفي جارنا متأثراً بنوبة قلبية لأنه لم يكن ممكناً تأمين ثلاث سيارات تنقله إلى المستشفى، إذ يمنع الاحتلال خروج سيارة واحدة من القرية ليلاً».
يسألها: «وماذا عن خروجك أنتِ كل صباح قبل أن يستيقظ أحد؟ أنا رأيتك أمس». تجيبه بأنها تعمل في زراعة الدخان، الأمر الذي يجبرها على الاستيقاظ باكراً والتوجه إلى الحقل الكائن خارج القرية «ثم إن التجوّل صباحاً غير ممنوع».

***


فجر اليوم التالي، تتوقف ملالة عسكرية مباشرة أمام الدكان الملاصق لمنزل فؤاد. يرى ثلاثة عناصر من «جيش لحد» يجرّون صاحب الدكان. «المعتّر آخدينو إلى معتقل الخيام» تقول امرأة فيما تتمتم الجدة: «نصحوه مراراً بعدم استقبال الشباب، لا يردّ على أحد. من سيسأل عنه الآن؟». عبارات مماثلة تتردد على ألسنة المسنّات: «ما لهم وهذه الحركات؟ يريدون أن يقاتلوا اسرائيل؟ هل تقاوم العين المخرز؟».
يستمع فؤاد إلى التعليقات من دون أن تغيب عيناه عن فاطمة التي كانت قد دخلت بيتها مسرعة. يقول لعماد ابن خاله: «جبانة، خافت إلى حدّ أنها لم تتوقف لتتابع ما سيحصل». لكن عماد كان متوتراً بدوره: «تعال معي، أحتاج إلى مساعدتك».
يتحمّس فؤاد ويختفي سريعاً عن عينَي والدته وجدّته، لاحقاً بخطى سريعة ابن خاله الذي يسلك دروباً فرعية في القرية، ويبدأ ما إن يصل إلى طريق رئيسية بترديد أغنيات جبلية. تطول الطريق ويجد فؤاد نفسه خارج القرية: «إلى أين نحن ذاهبان؟ هذه المنطقة خطرة»، فيجيبه: «سنقوم بمهمة يجب أن تبقى سرية بيننا، علينا إخفاء عدد من الصواريخ التي أدخلها الشباب إلى المنطقة». ما إن ينهي جملته حتى يلتحق بهما شابان آخران ويسارع الجميع إلى القيام بالمهمة التي أدخلت فؤاد عالماً جديداً بسرعة قياسية.
فالأسئلة كثيرة، ولم تعد تتعلق بما وصفه فؤاد بالسجن. وهذا عماد لا يجيب، بل هو خائف من حماسة الفتى الواقف أمامه: «طلبت مساعدتك لأني كنت مجبراً، لكن هذا لا يعني أني أستطيع ان أخبرك أكثر مما عرفته».
يقول له هذ الكلمات ويعود ليدندن أغنية، فيما يمرّ قربه رجل من أبناء القرية لكنه يتجاهله. يبتسم عماد ويخبر قريبه الصغير: «هذا الرجل أكثر من يعرف عن عملي في المقاومة لكنه يتجاهلني حفاظاً عليّ وعلى سرية ما نقوم به... أريدك أن تكون مثله».
أيام قليلة وتتعرّض دورية إسرائيلية لعملية عسكرية تحاصر القرية على إثرها فيما تدهم قوات الاحتلال بيت السيدة العجوز الواقع عند أطرافها.
«ليست المرة الأولى التي يحققون فيها معها» يسمع فؤاد، ويهمس له عماد بأن هذه السيدة تساعد الشباب «بل إنها دفنت وحدها جثة أحد المقاومين في حديقة دارها...».

***


يعود فؤاد إلى بيروت مجدداً، لكنه تغيّر كثيراً. بات يحب مخالطة الكبار والاستماع إلى روايات أبناء القرية الذين يزورون والده عن ممارسات قوات الاحتلال في القرية. وحده علي بين زوّار والده كان يتحدث عن أمر آخر: اختراقات الشباب للقرى الحدودية.
«لكن هل يمكن العين أن تقاوم المخرز؟» يطرح فؤاد سؤال المسنّة الذي سمعه في القرية، فيخبره عن المقاومة التي انضمّ إليها منذ الاجتياح الاسرائيلي لبيروت في عام 1982: «عندما انتسبت إلى المقاومة كنت أحفظ عبارة لطالما كرّرها المسؤولون على مسامعنا «إن الإمكانات الحالية للمقاومة في لبنان غير قادرة على إخراج «إسرائيل» من الأراضي اللبنانية» لكن هذا لم يمنعنا من الاستمرار».
لم تكن تلك العبارة تهدف إلى إحباط العزيمة بقدر ما كانت تقدّم صورة موضوعية للواقع «الذي تغيّر سريعاً إذ بدأ الحديث عن احتمال انسحاب في عام 1984 والعودة إلى حدود المنطقة التي كان قد احتلّها الاسرائيليون في عام 1978، وهذا ما حصل بالفعل».
يتذكّر فؤاد كيف كان علي يضحك وهو يحكي عن الاطمئنان الاسرائيلي للحركة داخل القرى الحدودية «كانوا مشغولين بالعمليات التي كانت تحصل في صور، فيما كانت المقاومة تبني وجودها عند الخطوط الأمامية»، والدليل على ذلك أن الإسرائيليين «عمدوا مرة إلى وضع سيارة استخدمت في عملية داخل قرية حدودية كـــــــــانت السيارة قد انطلقت منها أصلاً... حتى العمليات التي كنا نقوم بها داخل المنطقة الحدودية كانوا يعتقدون أن مصدرها من خارج المنطقة التي احتلت في عام 1978».

***


شهور معدودة ويستيقظ فؤاد على زيارة صباحية من قريبة لوالدته تخبرها أنهم اعتقلوا فاطمة، جارتهم في القرية. يلتقط رؤوس أقلام: وجدوا جهازاً في بيتها ويقال إنها كانت مسؤولة عن رصد الدوريات الإسرائيلية.
إنها فاطمة التي وصفها يوماً بالجبانة. يحاول أن يستعيد صورتها وهي تدخل مسرعة إلى البيت. ينتظر مجدداً زيارة علي ليسأله عن عمل الفتيات في المقاومة «كنّ يقمن بمجموعة من المهمات التي لا يستطيع الشبان القيام بها»، لا يفصح عن أكثر من هذه المعلومات في حينه. لذلك كان على فؤاد أن ينتظر فاطمة لتخرج من المعتقل وتخبره عن طبيعة عملها: «لا شيء مهماً، كنت أرصد الدوريات الإسرائيلية وأبلغ الشباب مواعيدها».
ترفض إخباره عما تعرضت له في معتقل الخيام من تعذيب خلال سنوات أسرها السبع «كلّها لا تساوي دمعة من والدتك التي منعت من دخول القرية لتحضر دفن جدتك» قالت له بحماسة أعادت إلى عينيها بريق السنوات الأولى للنضال.
تروي له أنها انتسبت إلى المقاومة «من دون تخطيط، وجدت نفسي أؤدي أعمالاً تساعدهم... لكني لا أنسى أني منذ طفولتي كنت أراقب خالاتي وهن يساعدن الفدائيين الفلسطينيين الذين كانوا ينطلقون بعملياتهم من قريتا أيضاً».
«كيف أصف فاطمة اليوم؟ بطلة من بلادي. كلّ نساء بلادي بطلات» كتب أخيراً في رسالة فرضتها عليه صور النازحين بفعل الحرب الإسرائيلية الأخيرة. ويتذكر ما كتبه له عماد مرة بعد خروجه من معتقل الخيام الذي تعرّض فيه لأبشع أنواع التعذيب، ما دفع بالسجانين إلى نقله إلى مستشفى مرجعيون للعلاج: «لا أنسى إحدى الممرضات التي كانت تساعدني رغم كل المخاطر التي كانت تهدّدها. كانت شقيقتها معتقلة أيضاً، ورغم ذلك كانت تتحداهم وتحرص على فعل كلّ ما يمكنها للتخفيف من آلامنا».