strong>لمى كحّال
  • في «البلد» يصلحون الحجر، أما البشر فيعيشون على خطّ الفقر... وتحته

    منذ سنوات معدودة فرضت صيدا القديمة نفسها على الخريطة السياحية بعد سلسلة من أعمال التأهيل والترميم. لكن هذه الحركة لم تنعش «البلد» إلا موسمياً، وخصوصاً في شهر رمضان، لتعود المدينة «أماً للفقير» فتحتضن ما يقارب عشرة آلاف نسمةيعيشون في غالبيتهم تحت خط الفقر

    يجلس الحاج سعد الدين المعني على كرسيه البلاستيكي المكسور الجانب، سانداً ظهره إلى الحائط مقابل فرنه في حي المصلبية في منطقة صيدا القديمة. يوجه التحية للذاهب والقادم. «الأمير فخر الدين هو جد جدي»، يقول بلهجته الصيداوية، «عائلة المعني تعيش في صيدا منذ 300 عام، ومنذ ذلك الوقت حتى اليوم، لم يتغير شيء في صيدا القديمة، إذ لا تزال كما هي...
    الناس فقط يتغيرون، ينامون ويقومون ويخلّفون، يكبرون ويموتون». يقوم بجسده الثقيل ليعطي ربطة خبز لزبون ثم يعود إلى كرسيه، ويتابع بنبرته العالية وصوته المبحوح «من يدخل إلى صيدا لا يستطيع أن يتركها» . لا تزال أحياء صيدا القديمة، التي يرجع عمرها إلى مئات السنين، تحتفظ بطابعها التراثي الذي كوّن هويتها بعد تراكم عدة عصور، إلا أن هذا التراث قد يبدو مكلفاً لسكانها.
    فالحارات مسقوفة بمعظمها بالحجر الذي يحجب عنها نور الشمس إلا من خلال بعض الكوّات والفجوات، فتبدو معتمة مظلمة تتدلى من سقوفها شرائط الكهرباء الكثيفة بإمداداتها الخارجية وتتدلى من وسط هذه الشرائط في بعض الأزقة «لمبات» صغيرة للإنارة. وتختزن جدران الحارات رطوبة فتفحّ رائحتها عفناً وبرودة. وعلى طول هذه الحارات التي يبلغ عرضها مترين أو ثلاثة أمتار على الأكثر، تقع محال صغيرة ضيقة تعرض نصف بضاعتها على الطريق على رغم ضيق المساحة.
    أما المباني فهي قديمة قِدَم المدينة. يعاني بعضها التصدّعات حتى لتبدو مائلة وينبت في زواياها العشب بسبب الرطوبة. ويتّسع كلّ مبنى لعدة عائلات بعضها تسكن غرفة واحدة، وبعضها تسكن بيتاً هو عبارة عن غرفتين ومطبخ وحمام. أما شبابيك البيوت فهي كالكوّات صغيرة تغطيها أكياس النايلون لتمنع دخول الأمطار في الشتاء وتُنشر عبرها الملابس المغسولة. أما في بعض الأحياء التي وصلت أعمال الترميم إليها، يحلّ الشباك الخشبي محل النايلون ليحمي البيوت من عواصف الشتاء.

    «صلّحوا الحجر»

    تكتفي عجوز تجلس قرب محل السمانة الذي يملكه ابنها في حارة اليهود، بكلمة «آخ» لتعبّر عن سنين حياتها في صيدا القديمة. أما فؤاد الشيخ، وهو أيضاً صاحب محل سمانة في حي سينما الحمرا، فتعلو نبرته وهو يتكلم عن 55 سنة عاشها هناك، منذ أن جاء والده من فلسطين عام 1948 وتزوّج من أمه اللبنانية، وأنجباه. يقول: «بدأت أكره هذا المكان. لا عمل في صيدا والوضع يسوء سنة بعد أخرى». فالمحل يعطيه شهرياً نحو مئتي ألف ليرة، ما يجعله يطلب مساعدة أمه وأخيه لإعالة زوجته وبناته الست وابنه الوحيد فاديينتقد فؤاد الإصلاحات في المنطقة «صلّحوا الحجر، والحجر طول عمره حجر، شو بدنا نحنا فيه، يجب أن تُدفع الأموال لتدبير المشاريع للناس كي تعيش». وينتقد بطء سير الأعمال قائلاً «بيحطوا السِّيَبْ وبيتركوها سنة، بيروحوا وبيجوا»، «نحن نعيش بكآبة»، يضيف فؤاد، «كل ما نحتاج إليه هو العمل، أنا مستعد أن أغلق محلي وأعمل ناطور بناية أو سائقاً، لكن لا أحد يرضى بي وأنا في هذا العمر».
    وتعتمد نفيسة، وهو الاسم الذي يعرفها به الجميع، بينما اسمها على الهوية انتصار، على «أولاد الحلال» لتوفير معيشتها. فقد وُلدت في صيدا وعاشت فيها طوال 48 عاماً. هي من فلسطينيي 1948، تعيش وحدها بعدما توفي والداها. تبيع الشوكولا والبسكويت على بسطة خشبية تضعها على مدخل بيتها لكنها لا تبيع في اليوم الواحد إلا ببضعة آلاف ليرة، ولا سيما أنها تضطر إلى وضع البسطة داخل منزلها في الشتاء لتقيها من الأمطار، فلا يراها أحد.
    أما دعاء مصرية، ابنة الخمسة عشر عاماً، فتقول «أتمنى أن يبعتلنا الله مصاري ويصير عنا بيت وعفش جديد حتى ما نحتاج حدا». تجلس على عتبة بيتها المؤلف من غرفتين ومطبخ وحمام والذي تعيش فيه مع أمها وأبيها وإخوتها السبعة، وتقول: «البيت سيهبط علينا، ولا أحد غيرنا يسكن في هذا المبنى، البيت تدخله ماء الشتاء والحيطان فيها تشققات، وينبت فيها العشب لشدة الرطوبة ولعدم دخول الشمس إليه». بلغت دعاء الصف السادس الابتدائي قبل أن تترك المدرسة. تتمنى بشدة أن تخرج من صيدا القديمة وأن تعيش في «حي البراد»، وهو في منطقة صيدا خارج «البلد»، لأن «فيه هدوءاً، وأحبه كثيراً. وأحب أن أعمل في محل ثياب لكن والدي لا يسمح لي بذلك».

    أعمال الترميم

    على رغم هذا الوضع، لا يخلو «قلب البلد» من بعض مظاهر الإصلاحات الخجولة. «السقالات» مثبتة ومرفوعة، والمبنى مغطى بالشبك الأخضر الرقيق دليل خضوعه لأعمال الترميم. وخلال الانتقال بين حيّ مرمّم، كحي «عودة» الذي تحسّن نتيجة مبادرة فردية، وحيّ لم يرمم بعد، تشعر كأنك في مكانين مختلفين، إذ تطال التغييرات الحي بجميع أجزائه من الجدران إلى السقف إلى الأرض إلى واجهات المباني، وحتى واجهات المحال.
    وقد أُطلق «مشروع الإرث الثقافي والتنمية المدينية» في صيدا القديمة في 18 أيلول الماضي بتمويل من البنك الدولي. يقول المهندس فادي القطب، وهو المنسق بين «مجلس الإنماء والإعمار» الذي يتولى تنفيذ المشروع وبلدية صيدا، إن «مدة المشروع هي 18 شهراً لكنه سيتأخر بسبب الأوضاع. ويهدف المشروع في مرحلته الأولى إلى ترميم داخل البلد وإصلاحه، وذلك لتحسين مساره الثقافي وإعادة الطابع التراثي للمدينة. أما المرحلة الثانية، التي لا تزال قيد الدرس، فإنها تهدف إلى إصلاح الواجهة البحرية للبلد».
    ويرى القطب أن إشكالية المشاريع التي يموّلها البنك الدولي هي «أنها لا تخدم السكان بصورة مباشرة. فحين يُعمل على ترميم الواجهة السياحية للمنطقة تتحسن أوضاع الناس، وتنشط الحركة عندما يزيد عدد روّاد المنطقة»، مشيراً إلى أن هناك ما بين 2500 و2600 وحدة سكنية في منطقة صيدا القديمة.
    لا شك في أن هذه المشاريع الترميمية التي تطال الحجر في صيدا القديمة تفيد السكان في «البلد». وقد شهدت المنطقة حركة جديدة من نوعها في السنوات الأخيرة، إذ بدأ أهالي صيدا من خارج البلد يقضون السهرات الرمضانية في مقاهيها، سواء كانت على المدخل المطل على الواجهة البحرية، أو في ساحة باب السرايا، أو حتى في الأحياء الداخلية. وقد زاد ذلك من الحركة وحسّن الأوضاع الاقتصادية لبعض الأهالي، لكن تبقى هذه الحركة آنيّة وموسمية، وهي لا تفيد الأهالي جميعهم بل فئة منهم. يقول غسان المصري إن «السياح والغرباء عن المنطقة يأتون ويتفرجون ويصورون، ولا يشترون شيئاً منا». فهو كعتّال لا تطاله هذه المشاريع بفائدة. كذلك لا يستفيد فؤاد الشيخ من الغرباء «القليلين»، برأيه، «فلا أحد يشتري من محل سمانة».
    هذا الوضع يدفع البلدية والجمعيات الأهلية إلى المساعدة لتحسين الأوضاع. تفيد رلى الأنصاري، وهي عضو في بلدية صيدا أن البلدية «أقامت بالتعاون مع شركة خاصة دورة للعاملين في المقاهي لتحسين أدائهم». وعن دور البلدية في «البلد»، تقول الأنصاري إنها تُعنى بالحفاظ على النظافة من حيث جمع النفايات وتصليح مجاري الصرف الصحي، إلى جانب توفير الإنارة، بالإضافة إلى إقامة نشاطات رياضية وترفيهية في «البلد».
    وتشرح المسؤولة في مؤسسة الحريري هويدا الأسد أن المؤسسة «تعمل على تنمية الحجر والبشر في البلد. فإلى جانب ترميم 600 منزل حتى الآن وفق التعليمات التي تفرضها مديرية الآثار للمحافظة على المواصفات الأثرية للبلد، تعمد المؤسسة إلى تقديم مساعدات مالية بصورة دورية لبعض العائلات التي لا معيل لها، إلى جانب المساعدات الغذائية والطبية والتربوية للأهالي».
    ولجمعية «أهلنا» خدمات مشابهة في المنطقة لجهة توزيع معونات بصورة دورية للعائلات المحتاجة وتشغيل سيدات في صناعة المأكولات وإجراء دورات تقوية مدرسية للطلاب الذين يعانون صعوبات تعليمية. ويشرح مسؤول قسم الإدارة والمحاسبة في الجمعية رشيد حمتو «أن الجمعية تساعد ما بين 500 و600 أسرة في البلد. نعمل على مساعدة أطفال ومسنّين، وسيدات لا معيل لهن، وذلك في إطار مشاريع تربوية وصحية وتموينية واجتماعية».
    وعلى رغم الاهتمام الذي تظهره الجهات الرسمية وهيئات المجتمع المدني، لا يزال بعض الأهالي يعانون المشكلات، ذلك أن المشاريع التي تقام في المنطقة لا تساهم في توفير مستوى معيشي مرتفع وشهري لهم، ولا تعالج أسباب المشكلة الجذرية.