strong>ملاك مكي
  • لم لا نتشارك مع الطالب في وضع القوانين والامتثال لها؟

    يشكل «القصاص» المدرسي عماداً أساسياً في النظام التربوي اللبناني لحلّ مشكلات عدم الانضباط، المشاغبة، السلوك السيّئ... لكن هل يشكل هذا العقاب رادعاً حقيقياً للطالب أم ينمّي لديه الرغبة في الانتقام أو الشعور بالذنب؟ وما هي الطرق البديلة الواجب استخدامها لتواصل سليم مع الطالب يسمح له بوضع قوانينه الخاصة؟

    لا تخلو ذاكرة أحد من قصاص مدرسي نفّذه لأسباب مختلفة. ولا يرتبط الحديث عن هذه القصاصات في ذاكرة الكثيرين بأي مشاعر سلبية، بل يقابلونها بابتسامة أو ضحكة تعيدهم إلى الحادثة التي سببت معاقبتهم.
    غير أن القصاص غالباً ما يؤثر في الأهل الذين يتلقون اتصالات شاكية تصل إلى التهديد بالطرد من المدرسة، كحالة السيدة نجوى حلو التي طُرد ابنها لمضايقته زميلة له. تؤكد أنها لم تعد تعرف كيفية التعامل معه بسبب شقاوته حتى إنها باتت تلجأ في بعض الأحيان الى القصاص «لكنه لا يجدي نفعاً مع ولد طائش، كثير الحركة، يحتمي بأبيه الذي يرفض مبدأ التعامل بقسوة مع الأولاد».
    المشهد مختلف في المقلب الآخر، أي الطالب، كما هي الحال مع أحمد جوني (16 عاماً) أو «خبير» القصاصات. القصاص بالنسبة إليه عادة يومية، السؤال عنه كالسؤال عن الصحة وأحوال الطقس، وخصوصاً أنه جرّب جميع أنواعه من النسخ، الحفظ، الجلوس في الصف أوقات الفرصة، تمضية يوم السبت في المدرسة، حذف العلامات، وصولاً إلى إنذار الأهل حتى صارت قصاصاته تشكل جزءاً من شخصيته، شخصية اتسمت بعدم الانضباط في الصف، التحدث أثناء الشرح، مقاطعة الأساتذة بأضحوكة تجعله مهرّجاً. على رغم ذلك، لم يعبّر أحمد يوماً عن انزعاجه من هذه القصاصات، إذ تروقه فكرة أن أساتذته لن ينسوه أبداً، فلا ينسى أن أحد الأساتذة اتصل به محاولاً إقناعه بالكفّ عن المشاغبات لأنها لا تليق بشخص لطيف مثله، «بعد هذا الاتصال صرنا صديقين» يقول ضاحكاً.
    صحيح أنه لا ينسى نسخه لـ400 سطر (biologie) استغرقت ثلاث ساعات، وآلمته يده يومذاك إلا أنه لم يعتبر نفسه غبياً ولم يشعر بدونية بين الرفاق الذين وفي أوقات كثيرة كانوا يساعدونه في النسخ «مقابل ألف ليرة لكلّ قصاص». بالعكس، كان يعدّ نفسه «جغلاً» مقارنة مع «فوفو الماما» أي التلميذ الذي لا يشاغب أبداً خوفاً من الأستاذ.
    الأمر الوحيد الذي كان يردع أحمد هو تهديده بحذف العلامات لأن ذلك يؤثر في نتائجه المدرسية، ليس لأنها تعنيه بل لأنها تحدّد علاقته بأهله، علاقة تتوطد أو تسوء نسبة إلى المعدل العام، ربما مقابل كل قصاص مدرسي، هناك قصاص من نوع آخر في البيت، كالحرمان من مشاهدة التلفزيون أو الخروج مع رفاقه، فهنا يجد أن حريته مهدّدة، وأن علاقته بأهله غير سليمةلكن كلّ ذلك كان قبل أن ينتقل أحمد إلى مدرسة أخرى، للفتيان فقط. اليوم، لم يعد للقصاص محل من الإعراب في يومياته، ترى ما الذي تغير؟ يضحك أحمد، يعرف السبب جيداً، جميع هذه المشاغبات كانت لإضحاك البنات، لجذبهن. مراهق هو، حاول أن يحصل على إعجاب الجنس اللطيف من خلال هذه التصرفات «غير المنضبطة». لم يكن يهمّه النسخ ولا الحفظ، جلّ ما كان ينتظره بعض التعليقات كـ«شو مهضوم هالصبي»، «بحب هضامتك». اليوم لا هدف من مقاطعة الأستاذ، فيجلس ويتابع الدرس. لرونالد مشعلاني (21 عاماً ــ طالب جامعي) ذكريات خاصة مع القصاص الذي لازمه طوال سنوات المدرسة. لم يتأثر به، وبالنسبة إليه القصاص مسلٍّ «شي سلبي»، كان يحب أن يعذّب الأساتذة والأهل ليتسلى فقط بسبب الضجر في الصف. حتى اليوم يحب رونالد أن «ينكّل» بأهله، لكي يقتل ضجره. هو سيصبح بعد عام أستاذاً في الرياضة البدنية، لكنه لن يقاصص تلامذته «أنا أكثر من يعرف أنه لا جدوى من القصاص».

    مكافأة أم عقاب ذاتي؟

    تدلّ حالتا أحمد ورونالد على فشل أسلوب القصاص في تغيير السلوك ما يطرح علامات استفهام كثيرة على الأساتذة والأهل وعلماء النفس عن جدوى هذا النوع من العقاب؟
    تتبع بعض مدارس لبنان نظام «الثواب والعقاب»، ويقوم هذا النظام على مبدأ العقوبة التصعيدية من الوقوف جانباً في الصف، حجز التلاميذ فترة بعد الظهر، حذف العلامات، حرمان التلميذ المشاركة في النشاطات الترفيهية والرحلات. وفي المقابل، تشكّل المكافأة «الثواب» وسيلة أخرى لمحاولة ضبط الطالب في الصف.
    وتجد ميساء خميس معلّمة في «ثانوية حسن قصير» أن مبدأ المكافأة ينجح أكثر من العقاب، إذ برهنت التجربة أن التلاميذ يلتزمون الصمت مقابل وعدهم بحضور فيلم فيديو. ومقابل تسليمه مشروعاً معيناً، يتحمل مسؤولية إنجازه، امتثل أحد الطلاب الطائشين للقواعد العامة. وعلى الرغم من ذلك تؤكد خميس «أنه لا مفرّ من العقاب، لأنه يشكل رادعاً يخاف التلامذة من تجاوزه».
    هذا الرادع المخيف لا يعتبره الأب عصام إبراهيم، وهو مربٍّ في مدرسة الحكمة ــ برازيليا، أساساً تربوياً سليماً، لأن التربية تقوم على الإصغاء والحوار. فأمام أي مشكلة مدرسية، شغب، التحدث في الصف، التقصير في التحصيل العلمي، يحاول الأب إبراهيم الاستماع الى الطالب أولاً، ثم التكلم أكثر على نفسه. برأيه لا يحول الاعتراف بالخطأ دون تكراره، «من هنا ضرورة القصاص المدرك، المفسر من قبل الطالب الذي يختار بنفسه نوع العقوبة (autopunition)».
    فالعقوبة «ليست للتخويف أو التوبيخ بل للتنبيه إلى وجود نظام يجب احترامه، لأن في احترامه منفعة للطالب وللآخرين، واحتراماً لذاته التي يجب أن تنمو ضمن ضوابط معينة تريحه نفسياً، وتبعد عنه القلق من السلطة. فالسلطة في ذهن الطالب، حاجز يمكن اختراقه بطرق ملتوية يسمع عنها ويشاهدها في المجتمع، فيجد بذلك حجة منطقية لعدم الامتثال لقوانين المدرسة والبيت».
    ويؤكد الأب إبراهيم ضرورة مشاركة البيت في التربية «من الضروري وجود حوار بين الأهل والمدرسة عن مشاكل أبنائهم، فرمي المسؤولية على عاتق الأسرة يسيء الى مسار التلميذ التعليمي».

    المطلوب إعادة النظر

    وإذا كان هذا رأي التربويين، فماذ يقول علماء النفس عن جدوى القصاص؟
    توضح الدكتورة في علم النفس العيادي ليلى الديراني أن القصاص هو محاولة لمعرفة الخطأ وتصحيحه لا ردة فعل على الفعل، «الخطأ وارد ومسموح لكن يجب على الولد أن يعرف أنه قادر على تصحيحه لا أن يخاف منه. من هذا المنطلق، يجب إعادة النظر في طرق العقاب المتبعة التي تشكل مضيعة للوقت، وتجعل الطالب مصرّاً على الخطأ، غير مبالٍ بالقصاص، بل ينمو لديه في حال الإفراط بالعقاب، الشعور بالذنب ورغبة في الانتقام ما يكبّله فكرياً، فيخاف من المبادرة، ويفقد الثقة بنفسه ويشعر باحتقار ذاته وقيمته الشخصية». وتشدّد الديراني على القيمة الشخصية التي يجب على النظام التربوي إعادة الثقة بها «حيث يصبح الطالب مشاركاً ومسؤولاً في عملية التعلّم. يشارك منذ اليوم الأول بالمدرسة بوضع قواعد العمل في الصف». ويأتي ذلك من خلال «صياغة إيجابية للأمور مثل استبدال عبارة «ممنوع التكلم بالصف» بـ«الصمت ضرورة لإنتاج أفضل»، أو أن يقوم الأستاذ بتجربة صغيرة يقارن فيها معالجة مسألة ما في جو من الفوضى مع معالجتها بهدوء، فيستنتج الطالب بنفسه ضرورة الصمت في الصف لإنتاج علمي أفضل. هكذا، عندما تصبح القواعد والضوابط مفسّرة للطالب ومقتنع بها، يتحول المعلم الذي يريد البعض تعذيبه إلى مشارك، وتتحول السلطة كرمز للقمع والتخويف الى مصدر ثقة». وبفعل غياب هذه الخلفية ترى الديراني أن «المشكلة تكمن في النظام التربوي الذي لا يجعل من التلامذة طلاب معرفة يجدون في التعلّم لذّة يجب إشباعها، وفضولاً يجب الامتثال لقوانين الجماعة للحصول على فرصة تغذيته، بل ضحايا قصاصات عشوائية، غير مدروسة».
    هذا الرأي لا يوافق عليه المعالج النفسي روجيه بخعازي إذ يعيد مشكلة الأولاد غير المنضبطين إلى أسباب نفسية «يجب معالجتها من زاوية الاختصاص النفسي حيث يؤدي القصاص دور المهدئ قبل مباشرة العلاج النفسي للولد ومعرفة الأسباب الباطنية وراء هذه التصرفات». ويؤكد بخعازي أن «إهمال العلاج النفسي يشكل سبباً لمشاكل أخرى قد تعوق في المستقبل معرفة الدوافع النفسية الحقيقية كالغيرة عند الأولاد، المشاكل العاطفية مع الأهل والمعلمة، انفصال الأهل ومحاولة تنبيه الولد الآخر الى وجوده».
    لكن الديراني لا تجد العلاج النفسي ضرورياً إلا في حالات مرضية صعبة لا لأسباب عادية دراسية سلوكية بسيطة «لأنه لا يمكن أن ندخل الولد في دائرة العلاج النفسي الذي يتطلب مجهوداً خاصاً وربما قد يولد عنده شكوكاً في شخصيته وفي ذاته».




    تهديد القيمة الشخصية للطالب ويفضّل شكري استعمال كلمة «العاقبة» بدل «قصاص» لانسجامها مع نظام تربوي يرى فيه أسلوباً متطوّراً في التربية «حيث تكون قوانين العلاقة بين التلميذ والأهل والمدرسة مكتوبة ومفهومة، وليست عشوائية أو غير معلنة مسبقاً. ولا يجب أن تكون مجانية، بل أن تمنح التلميذ فرصة لتحمّل مسؤولياته ومعرفة عواقب أعماله مسبقاً وما يمكن أن ينتج عن عدم القيام بها». هذا النظام كفيل بـ«صون حرية الولد في اختيار أفعاله، وتحمّل مسؤولية خياراته التي لا تواجه بالمزاج الخاص للأهل والأساتذة، ولا تنتظر مكافأة تندرج في خانة الرشوة، هذا التراث اللبناني العريق».
    ويضع شكري شروطاً لهذا النظام منها أن تكون «الجريمة» و«العقوبة» من العملة عينها «مثلاً، إضاعة وقت الآخرين تواجه بالأخذ من وقت الشخص نفسه»، وأن تكون العقوبة فردية «لأن العقوبة الجماعية لا تلامس الشخص بحد ذاته، وأن تكون متدرّجة وغير عنفية. هذا الأسلوب يتطلب من الأهل والأساتذة قراءة أعمق وثقافة أوسع في تربية الطفل الذي إن كان سيمضي على الأقل ثمانية عشر عاماً في كنف الأسرة والمدرسة فليس بكثير أن يقرأ القيّمون عليه كتابين عن أسس تربية الولد/الطالب».
    يحب الأولاد القوانين، فلا يبدأون باللعب إلا بعد وضع قانون اللعبة وتوضيحه. هكذا من الجميل أن نشارك الولد في وضع قوانينه الخاصة التي سوف يقتنع بضرورة الامتثال لها لإيجاد فرصة عيش أفضل مع الآخر.