إبراهيم الأمين
ربما مر وقت طويل قبل أن يتبيّن الوسطاء واقع الأمر على حقيقته. والمتقدمون من الفصائل الفلسطينية، كما رجال الدين، في محاورة قادة «فتح الإسلام»، يشعرون، بقوة، بأن هناك مشكلة في التحاور مع هذه المجموعة: إسلاميون يقودهم تشددهم الى ما هو مطابق لما تفكر به «القاعدة»، قلة اكتراث بالآخرين من أبناء المحيط. اعتراف جزئي بالآخرين من القوى السياسية، ولا سيما الإسلامية منها، معطوفاً على تصنيف يجعل معظم هذه القوى أدوات في يد دول وحكومات كافرة، واحترام بالقوة لبعض رجال الدين على اعتبار أن علماء هذا الزمان يعملون بمعظمهم عند السلاطين. وفوق ذلك، ثمة قدر عال من التماسك في الخطاب وفي الوجهة، برغم الارتباك الظاهر نتيجة ما حصل، ونتيجة إقرار ضمني بخطأ التقدير عند الرصاصة الاولى.
في المحادثات التي قادها رجلان، أحدهما شيخ والآخر سياسي من القوى الفلسطينية النافذة، أخفي بند من بنود المبادرة الرباعية. قيل لهم إن المطلوب الآن وقف تام لإطلاق النار، ثم انكفاء التنظيم عسكرياً وإعلامياً عن الساحة كلها، وتسليم الأمر الى لجنة أمنية مكوّنة من كل الفصائل بما فيها القوى غير المنضوية في منظمة التحرير الفلسطينية. لكن لم يجر التطرق بتاتاً الى البند الأهم والمتعلق بمصير قادة التنظيم وعناصره، إذ، بحسب أحد الوسطاء، لا أحد يجرؤ على مفاتحة هؤلاء بأن المطلوب الآن أن يسلموا أنفسهم طوعاً أو غصباً، والفكرة القائمة عند الوسطاء هي أن يترك الباب مفتوحاً مع غض للنظر بما يتيح تسوية تقضي بخروج معظم قادة التنظيم الى ساحة أخرى، وليس في اليد حيلة سوى العراق، وأن يواصل الجيش مهماته في مطاردة من يعتقد أنه سيصل إليه. علماً بأن لدى الجيش الآن نتائج مهمة على هذا الصعيد. فقد قتل ثلاثة من الكوادر القيادية الميدانية في مواجهات طرابلس وتخوم نهر البارد. وهناك أيضاً عدد غير قليل من المعتقلين بينهم من له دور أساسي في المبادرة، من دون أن يعني ذلك أن الملف أقفل. ولكن من يريد حلاً سلمياً عليه أن يفتح الباب أمام مخارج تحول دون لجوء هذه المجموعة الى ما هو قائم في عقولهم: الموت أولى من أي خطوة أخرى.
وبناءً على ذلك، ليس متوقعاً أن توافق «فتح الإسلام» على تسليم عناصرها وقادتها، وبالتالي فإن البحث عن مخرج يجب أن يأخذ في الاعتبار مجموعة أمور منها:
ـــــ أن هذه الأزمة تقوم وسط أزمة لبنانية ـــــ لبنانية تنعكس حتى في الموقف من التشخيص ومن المعالجات القائمة. وليس السجال المكتوم بين الجيش من جهة وقوى الامن الداخلي من جهة، والسجال المعلن بين القوى السياسية، إلا إشارة عملية الى عمق هذه الأزمة وصعوبة اللجوء الى خطوة تحظى بإجماع ما لم تكن في الإطار السلمي.
ــــ أن هذه الأزمة تقوم وسط أزمة فلسطينية ـــــ فلسطينية، تتمثل في تباين جدي برز في الايام الاولى بين موقف الفريق التابع للرئيس محمود عباس وبين الفصائل التي تعمل جميعها تحت خط المقاومة. وهو تباين ظهرت مساوئه في تسرّع مجموعات من فتح الى تبنّي الخيار العسكري، ما أدى الى تسارع الأحداث داخل المخيمات الفلسطينية نفسها وكاد يهدد بانفجار إضافي، علماً بأن احتجاجات واستقالات كوادر أساسية من «فتح ـــــ عباس» في مخيمات الشمال واحتجاج قادة سياسيين محسوبين على التنظيم في صيدا وصور دفعت الى التراجع الجزئي، من دون التخلي عن الموقف السياسي الذي يظهر هذه المجموعة كأنها جزء من 14 آذار، فيما يسعى الفريق الآخر، الذي يضم حماس والجهاد الاسلامي وحتى الجبهة الشعبية (غير القيادة العامة بزعامة أحمد جبريل)، الى تسوية تأخذ في الاعتبار المسؤولية العامة عن الوضع القائم.
ـــــ أن هذه الأزمة تقوم وسط أزمة لبنانية ـــــ فلسطينية، ناتجة عن استمرار غياب المعالجات الجدية لواقع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، السياسية منها والأمنية والاجتماعية، وسط مخاوف حقيقية من سعي البعض من القادة الرسميين في لبنان، الذين تربطهم صلة نسب ورحم بالمشروع الاميركي، الى ربط كل هذه المعالجات بالموقف الاساسي الساعي الى فرض التوطين في لبنان.
وبناءً على ذلك، فإن البحث العملي والجدي في حل حقيقي يستلزم توفير قاعدة صلبة تنطلق من علاج هذه الأزمات، وهو أمر غير متوقع في القريب العاجل، ما يعني أن جوهر الأزمة سيطول وأن من يريد علاجات موضعية سيضغط باتجاه خطوات أحادية الجانب. وفي هذا السياق يظهر الضغط الحثيث على الجيش لاتخاذ قرار بعملية عسكرية شاملة أو محدودة تؤدي الى إعادة الاعتبار الى مكانة الجيش وهيبته من جهة، وتفرض طريقة في معالجة حالات من هذا النوع لاحقاً، وتفتح الباب أمام توازن يفرض علاجاً سياسياً مختلفاً.
لكن النقاش الذي حصل مع قيادة الجيش في هذا الشأن توقف عند أسئلة أساسية: هل من ضمانة بأن مثل هذه العملية ستنجح؟ وإذا فشلت في تحقيق أهدافها الميدانية فكيف تكون الخطوة المقبلة؟ وما هو الأساس الأمني الموجود الآن والذي يجزم بأن مثل هذه العملية ستنجح؟ وهل من تصور دقيق لحجم رد الفعل الممكن أن يأتي من «فتح الاسلام» من داخل المخيم أو من خارجه؟ ثم هل هناك آليات واضحة لمرحلة ما بعد هذه العملية أم يُترك الأمر للآخرين؟ وهل هناك استعداد من جانب الحكومة والجهات الراعية لها عربياً ودولياً لمنح الشرعية لقيام لجنة أمنية فلسطينية مشكّلة من كل القوى تتولى أمر جميع المخيمات في لبنان؟ وكيف سيكون تأثير ذلك على الوضعية القيادية للفلسطينيين في لبنان؟
بالطبع ليس لدى قيادة الجيش الإجابات كلها، وثمة معطيات لا يمكن الحديث عنها الآن. لكن الجيش قال لكل من يعنيهم الأمر إنه لن يدخل الى المخيمات تحت أي ظرف، وهو مستمر في خطته الراهنة لفرض المزيد من الحصار الامني والعسكري على المخيم ومطاردة الفرق التابعة أو المتعاطفة مع فتح الإسلام خارجه، والعمل على وضع خطط لمواجهات محتملة، وهو لن يقدر في ظروفه الراهنة على فتح أي باب لخروج من اعتدى عليه من دون عقاب، ما يعني أن احتمال استمرار الوضع على ما هو عليه قد يطول، وهو الأمر الذي ينعكس على سلوك أبناء مخيم نهر البارد الذين يختلفون عن غيرهم من أبناء المخيمات، ففيهم أعلى نسبة من التجار والمتعلمين والناشطين في أعمال وصلات خارج المخيم. وهم لم يواجهوا مشكلة الصدامات إلا مرة واحدة قبل ربع قرن، ولديهم من الاستقرار ما يجعل تهجيرهم الآن بمثابة تجربة جديدة، وهو أمر لاحظته فرق الإغاثة المحلية والدولية التي دلت على توتر نفسي وعصبي غير ظاهر سابقاً عند اللاجئين الفلسطينيين، حتى وصل الأمر ببعض هؤلاء الى رفض ما يقدم لهم من إغاثة مع إلحاح على ضرورة إيجاد العلاج السريع لتأمين العودة الى المخيم.