باريس - جان عزيز
«انها بداية اعادة النظر»، هكذا يصف المراقبون في باريس، السياسة الفرنسية الراهنة حيال لبنان. لا يمكن الحديث قطعاً عن انقلاب، ولا عن تغيير في القراءة والتصور، ولا حتى عن بدايات تدريجية لذلك. انه مجرد ادراك أول لأزمة ومأزق حقيقيين، وبالتالي طرح أول للسؤال: الى أين من هنا؟
ويشير المراقبون الى أسباب عدة تشكّل الخلفية العامة لاعادة النظر هذه. فهناك الشخصي والسياسي، اللبناني والاقليمي، وطبعا الفرنسي منها والدولي.
في الشخصي يلاحظ «لبنانيو باريس» أن المرحلة التي امتدت منذ حسم نيقولا ساركوزي ترشيحه، في مواجهة الأسماء الشيراكية الأخرى، شكلت نوعاً من «نهاية عهد». في الكواليس والصالونات الفرنسية، لا يلتقي اثنان، الا ويكون انتقاد المرحلة الشيراكية ثالثهما. حتى أعتى المدافعين سابقا عن صديق آل الحريري، باتوا يغتنمون فرصة الإسرار بأقوال من نوع: لم نكن نعرف أن «التورط الشخصي» قد بلغ هذا الحد.
وفي الشخصي أيضا ثمة فريق جديد في الادارة الفرنسية. غالبيته مناهضة للمرحلة السابقة وأشخاصها. ومن ليس كذلك بات مدركاً للتغيير، ومندرجاً مع اتجاهاته. «قبل عام ونيف ــ يقول أحد المراقبين ــ لم يكن ممكنا لميشال عون أن يطل عبر وسيلة اعلامية فرنسية. أكثر من مرة تدخلت دوائر الأليزيه لتطلب العودة عن موعد مقابلة، أو عدم نشر مقال. في اليومين الماضيين ظهر عون على أكثر من عشر موجات فرنسية. هذه دلالة يعرفها جيدا الباريسيون. قبل عام كان الرسميون يتحاشون الحديث عن الجنرال. أمس الأول كانوا يتهافتون للقائه في مجلس الشيوخ، خصوصا أصدقاء الرئيس السابق، وليبلغوه نيتهم تشكيل لجنة «مشيخية» لزيارة لبنان. وفي الكي دورسيه كان فريق وزارة الخارجية كامل النصاب للاجتماع به والاستماع الى قراءته».
أصلا ليس بعيدا عن «الشخصي» نفسه وجود برنار كوشنير في هذا الموقع. فهو من رموز الفترة الميترانية، يوم اعتبرت فرنسا مصير عون مرتبطا بكرامتها. ثم أن كوشنير الآتي من عالم «السياسة الانسانية»، ينظر الى الأمور بمبدئية أكبر من المصلحية، وبقيمية أبعد من «الحسابات». في كل حال لم يخف كوشنير ذلك في لقائه مع عون الاثنين الماضي. فعلى عكس كل التضليل الاعلامي الممارس ضد الجنرال في باريس، حرص كوشنير على توجيه «تحية تقدير شخصية» الى عون «لنضالك طيلة 15 عاما من أجل استعادة سيادة بلادك واستقلالها». وفي الشخصي أخيرا، لا ينسى لبنانيو باريس الاشارة الى أن كوشنير خصوصا، كما العديد من مسؤولي المرحلة الفرنسية الجديدة، يملكون علاقات وثيقة مع العديد من أطراف المجتمع المدني في لبنان، وهي صلات تسمح لهم بتكوين صورة أكثر دقة وصحة، من تقارير القنوات الرسمية الآحادية الرؤية والنظر والقراءة.
الى «الشخصي»، هناك طبعا السياسي. وفي السياسي الفرنسي أولا، عودة الى العمل المؤسساتي في الدولة الفرنسية. فالسياسة الخارجية هنا تبدو وكأنها تستعد للعودة الى آلياتها الطبيعية، أي عبر حركة وزارة الخارجية واهتمام الحكومة، في ظل رعاية الرئيس الفرنسي. فيما كانت قد اختزلت في الأعوام الماضية في دوائر الأليزيه حصراً، وعبر علاقة عامودية بين هذه وبين بعض الأشخاص. هذه العودة الى أصول العمل السياسي والدبلوماسي لدولة كبرى مثل فرنسا، تشكّل لوحدها سبباً لدينامية جديدة، افتقدت طويلا، وانعكس افتقادها في شكل سلبي على لبنان وفرنسا.
بعد السياسي الفرنسي، هناك تلك المروحة الواسعة من الأسباب السياسية اللبنانية والاقليمية والدولية. ففي الداخل اللبناني، تصرّ الادارة الفرنسية الجديدة على اعلان حرصها على التواصل مع الجميع، من دون عقد ولا محرّمات ولا محاباة. وفي باكورة هذا الاتجاه كلام كوشنير عن «حزب الله» في بيروت، اضافة الى الحديث من باريس عن بداية حوار ما. وفي الداخل اللبناني أيضا ادراك واضح للمأزق، كما للمخاطر المحتمل أن تنجم عنه. وبالتالي ثمة بحث عن كيفية الخروج من أمام الحائط المسدود. ليصبح هذا التفكير طاغياً باضافة قراءة مماثلة في بعدها الاقليمي: مأزق قائم على مستوى المنطقة، ومخاطر كبرى محذورة، وضرورة سعي الى تفاديها وتذليل الجمود. وليست مصادفة أن يكون الموقف الفرنسي الجديد في هذا المجال، أكثر تطلعاً الى طهران، وأكثر رهاناً على دور لها، مرجو ايجابياً، لحلحلة الأوضاع المأزومة في كل المنطقة، وخصوصاً في لبنان. حتى أن الكلام الفرنسي عن دور ايراني كهذا، بات علنياً، وأضحى في الدوائر الرسمية، محط رهان وقبلة مساع وجهود.
ماذا يعني ذلك لبنانياً وكيف «يدوزن» مع الايقاع الأميركي؟
يجيب لبنانيو باريس: أولا هناك الالتزام الفرنسي الكامل والمستمر باقرار المحكمة الدولية. بعدها تنفتح المرحلة على أفق جديد. تكون باريس قد وفت عهدها الأدبي والأخلاقي تجاه تداعيات جريمة 14 شباط، وتكون المواقف اللبنانية قد انكشفت أكثر على حقائق الخلفيات والحسابات، وتكون واشنطن قد أدركت فعلا ضرورة البحث عن سبل جديدة لما بعد المحكمة.
لكن ألا تصطدم هذه القراءة، بضغط عامل الوقت، بحيث يكون الاستحقاق الرئاسي عنصراً واجب الحصول، مع ما يحمله من عناصر تناقض، فيتفجر الوضع اللبناني مجدداً؟ يسرّ المطلعون أنه، للمرة الأولى، قد لا تكون «باريس الجديدة» بعد اقرار المحكمة، بعيدة من أجواء البحث في كيفية «اعادة تكوين السلطة اللبنانية برمتها»، ومنفتحة على سماع كل القراءات.
واذا صح هذا التصور، ألا تكون باريس أمام احتمال العودة الى التباين القديم مع واشنطن حيال الملف اللبناني، وهو التباين الذي ردمه شيراك قبل ثلاثة أعوام؟ ماذا تفعل فرنسا عندها؟ هل تنكفئ لبنانيا كما فعلت بعد أحداث 1990؟ أم تتنافس مع أميركا كما حاولت قبل تقاطع القرار 1559؟ أم تسعى الى اقناع الأميركيين بوجهة نظرها، كما لم تفعل مع شيراك؟ الخيار الثالث، يبدو الأقرب الى صورة الدينامية التغييرية لساركوزي، يجيب لبنانيو باريس، أو هكذا يأملون.