نقولا ناصيف
فتح الاقتراح الذي طرحه الرئيس إميل لحود على البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، بتأليف حكومة سداسية، باباً على السجال المتصلب أكثر منه خطوة مقبولة للحل. وخلافاً لما رمى منه رئيس الجمهورية، وهو تفادي أزمة دستورية مرتقبة في الحكم والحكومة، تبدو قوى 14 آذار أقرب إلى مناقشة الموضوع الحكومي مع سواه.
يعبّر عن هذا الموقف معطيان متلازمان تبرزهما جهات رسمية واسعة الاطلاع:
أولهما، مبادرة كان قد حمّلها الرئيس فؤاد السنيورة إلى الرئيس نبيه بري، عبر السفير السعودي في بيروت عبد العزيز خوجة قبل أيام، وتقضي بالتفاهم على تأليف حكومة جديدة تأخذ في الاعتبار الاتفاق المسبق على برنامجها السياسي، وتتوزّع قوى 14 آذار والمعارضة المقاعد تبعاً للتمثيل النيابي وفق معادلة 17 وزيراً للغالبية، و13 وزيراً للمعارضة. وتنطلق مبادرة السنيورة من أن ثمة قاسماً مشتركاً بات قائماً بينه وبري، هو أنهما يريان أن المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري باتت أمراً واقعاً، ووراء الخلاف السياسي الداخلي، وقد أضحت في عهدة الأمم المتحدة، الأمر الذي يتيح الالتفات إلى مناقشة سائر الملفات الشائكة الأخرى العالقة بين طرفي النزاع، وصولاً إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية في الخريف المقبل.
وبحسب الجهات الرسمية نفسها، فإن السنيورة لا يمانع في استقالة حكومته إذا تمّ الاتفاق على برنامج سياسي مكتوب للحكومة الانتقالية في الأشهر القليلة الفاصلة عن انتخابات رئاسة الجمهورية، على أن يتناول تحديداً التزام النقاط السبع والقرار 1701 وخطط مؤتمر باريس 3. ومع معرفته سلفاً بأن الأشهر الفاصلة لن تتيح للحكومة الانتقالية تنفيذ برنامج سياسي معقد كهذا، فإن تمسّكه بمثله يرمي إلى تأمين غطاء سياسي للحكومة التي سيكون عليها أيضاً تحقيق اتفاق على إمرار الاستحقاق الرئاسي. ويأخذ السنيورة في الحساب أن الإخفاق في التفاهم على الاستحقاق يساعد الحكومة الانتقالية على الاستمرار في السلطة إلى حين تحقيق هذا الهدف. وتبعاً لذلك فإن استقالة حكومته تأتي إحدى نتائج الاتفاق على البرنامج السياسي تفادياً لفراغ دستوري.
لكن خيار الحكومة الانتقالية يفوّت، في الوقت نفسه، على رئيس الجمهورية الإقدام على تأليف حكومة ثانية، أو حل مجلس النواب. ومع أن أياً من هاتين الخطوتين لا تعنيان بالنسبة إلى قوى 14 آذار إلا تجاهلاً ولامبالاة، وتمسكاً بحكومة السنيورة، فإن مجرد الخوض فيهما يفتح أبواباً إضافية على الانقسام الداخلي والتشنج السياسي.
وثانيهما، حسم عسكري يقوم به الجيش للقضاء على تنظيم «فتح الإسلام» في مخيم نهر البارد، بعدما استوفى الانتظار على امتداد عشرة أيام المبررات الآتية:
ـــــ حاجة الجيش إلى العتاد العسكري اللازم لتنفيذ مهمة الحسم. ويرتبط ذلك بما كان قد ساقه قائد الجيش العماد ميشال سليمان أمام مجلس الوزراء في الجلسة التي عقدها، على أثر انفجار أحداث الشمال في 20 أيار، وهو أنه ليس في وسع الجيش الحسم عسكرياً لافتقاره إلى العتاد العسكري الذي يتطلبه الحسم، وخصوصاً لجهة السترات الواقية والمناظير الليلية والذخائر، وقد عوّض الجيش هذا النقص في الأيام الأخيرة بعد تسلّمه المساعدات العسكرية الأميركية.
كذلك عزا قائد الجيش أمام مجلس الوزراء دوافع تريثه في حسم عسكري فوري ضد «فتح الإسلام»، إلى اكتظاظ مخيم نهر البارد بالسكان. ولفت المجتمعين إلى أن إسرائيل، على وفرة تدريب جنودها وعديدهم وعتادهم وتسلحهم وتفوق آلتهم العسكرية، لم تقدم في أي من اجتياحاتها للبنان على دخول مخيم فلسطيني بسبب اكتظاظ المخيمات، وصعوبة قيادة معركة عسكرية في ظل هذا الواقع.
ـــــ مغادرة نحو 21 ألفاً من سكان نهر البارد في الأيام المنصرمة، وبقاء ما بين 5000 إلى 7000 من المقيمن فيه حاضراً، من فئات ثلاث: بعض الأهالي، ولا سيما المتقدمون في السن الذين يخشون مغادرة بيوتهم خشية سرقتها، وعناصر «فتح الإسلام» إلى أخرى سلفية التحقت بها، فضلاً عن مطلوبين من العدالة اللبنانية محاصرين في المخيم، وعناصر حركتي «فتح» و«حماس».
ويبدو أن الجيش والسلطة اللبنانية يراهنان على اضطلاع مسلحي «فتح» و«حماس» بدور إيجابي وإن غير مباشر في الحملة العسكرية، دون الحاجة إلى انخراطهم في المواجهة، بتوليهم التضييق على عناصر «فتح الإسلام» في المخيم والحؤول دون توسّع انتشارهم، تفادياً لمزيد من الأضرار والخسائر التي يمكن أن تترتب على الحسم العسكري. وتالياً ـــــ ما دام الطرفان ينكران انتساب التنظيم الإرهابي إلى الفلسطينيين ـــــ فإن السلطة اللبنانية تفترض أنهما سيكونان في موقع مؤازرة الجيش لإنهاء وجود «فتح الإسلام» نهائياً في مخيم نهر البارد.
ـــــ تأخير الحسم العسكري إلى ما بعد إقرار مجلس الأمن مشروع المحكمة الدولية بغية تفادي أي تأثير متبادل بين الاستحقاقين المكلفين، وإمرار مشروع المحكمة في هدوء، يصار على الأثر إلى بدء هجوم عسكري، تقدّر القيادة العسكرية نطاقه، لاجتثاث عناصر «فتح الإسلام» من داخل مخيم نهر البارد. ويتلاقى هذا الموقف مع الإصرار الذي تحدثت عنه باستمرار قيادة الجيش، وهو أنها لن تسمح للتنظيم الإرهابي باستنزافها على الأرض، وفرض أمر واقع على الجيش في مخيم نهر البارد، يحيله صورة متطابقة تماماً عن مخيم عين الحلوة الذي أضحى مرتعاً لتيارات أصولية وسلفية وللمطلوبين من القضاء اللبناني.
لكن المعطيات هذه، التي ترسمها الجهات الرسمية الواسعة الاطلاع، وكأنها أقرب إلى سيناريو متفائل للمرحلة المقبلة بعد إقرار مشروع المحكمة الدولية تحت الفصل السابع، تتعارض في واقع الأمر مع ما يعبّر عنه مسؤولون بارزون في المعارضة. إذ يرسم هؤلاء بدورهم تصوّراً معاكساً هو أقرب إلى سيناريو متشائم. وهم يؤكدون أن الحل الوحيد المتاح لمخيم نهر البارد، والمقصود بذلك تصفية وجود «فتح الإسلام»، يقتضي ألا يتخطى سقف الحل السياسي. وهو تعبير إضافي لما قال به حزب الله، وأمينه العام السيد حسن نصر الله خصوصاً، عن ضرورة عدم الربط بين خيار عسكري محفوف بالأخطار والمجازفة لضرب التنظيم الأصولي، ودخول الجيش اللبناني للمرة الأولى منذ سنوات مخيماً فلسطينياً.
الأمر الذي يشير، في نهاية المطاف، إلى أن النزاع على المحكمة الدولية بين قوى 14 آذار والمعارضة، قد يكون اتخذ هذه المرة وجهاً آخر ومختلفاً، وقد لا يقل خطورة على أبواب الاستحقاق الرئاسي بعدما خرجت المحكمة الدولية من التجاذب الداخلي، بأن يحلّ محلها ملف مخيم نهر البارد ببعديه السلفي والفلسطيني.