نقولا ناصيف
لا يفتح إقرار مجلس الأمن المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري بالقرار رقم 1757، أبواب الانفراج الداخلي على نحو ما يفترض أن يؤول إليه هذا الإقرار. بسببها استقال الوزراء الشيعة الخمسة ونشأت الأزمة الحكومية. وبسبب هذه حيل دون انعقاد مجلس النواب وانتقل المشروع إلى الفصل السابع. وبسبب الأمرين معاً تبادل طرفا النزاع، قوى 14 آذار والمعارضة، التشكيك والطعن المتبادل في المؤسسات الدستورية، وأخفق مسعى تأليف حكومة جديدة بين مَن يطلبها ومَن لا يريدها. ولأن سياق تطورات الأشهر الأخيرة يحتّم مع إبصار المحكمة الدولية النور، البحث في مناقشة سائر الملفات العالقة التي تعثّر الاتفاق عليها من جراء الخلاف، فواقع الأمر أن هذا التقدير يتخبّط في بعض الأوهام، بمعزل عن الأهمية القصوى ــــــ بل الحاجة الملحّة التي يتطلبها اللبنانيون ــــــ من أجل إقرار المحكمة الدولية.
ذلك أن المواقف الأخيرة لقوى 14 آذار والمعارضة، تشير إلى مزيد من الانقسام. وهو على الأقل ما تعبّر عنه حال منع التجوّل غير المعلن من التاسعة مساء كل يوم نتيجة حال الذعر والهواجس التي تنتاب اللبنانيين، وتحملهم على ملازمة بيوتهم، خشية حصول أحداث أمنية. وهو أيضاً ما تعبّر عنه أوساط مراجع رسمية من قلق على انعكاس ما يحدث في مخيم نهر البارد، بين الجيش و«فتح الإسلام»، على الوضع الداخلي.
وتتعارض هنا وجهتا نظر كل من قوى 14 آذار والمعارضة حيال فكرة الحسم العسكري، لكون كلّ منهما يجزم بها على طريقته: الغالبية القائلة بأن حسماً عسكرياً يُقدم عليه الجيش واقع لا محالة لاجتثاث التنظيم السلفي الإرهابي، والمعارضة القائلة بأنه لن يقع لأن مجرد حصوله يفتح أبواب صدام أسوأ بنتائجه، بين الجيش وسائر المخيمات والمعسكرات الفلسطينية خارج المخيمات. بل تذهب هذه الأوساط إلى الاعتقاد أن ذلك ربما آل في آن إلى مواجهة لبنانية ــــــ لبنانية، وفلسطينية ــــــ فلسطينية، وعندئذ تقع المخيمات الفلسطينية في قبضة التيارات الأصولية والسلفية ما خلا مخيم الرشيدية. بالإضافة إلى أن الصدام العسكري مع «فتح الإسلام» جعل من هذه غطاء مباشراً لتغذية نشاطات إرهابية وإحداث قلاقل وأعمال تفجير قد تُقدِم عليها أكثر من جهة أمنية، أو سلفية، عاملة على الأراضي اللبنانية.
وهكذا يتزامن الفراغ السياسي مع فراغ أمني، ويدفعان بطرفي النزاع، قوى 14 آذار والمعارضة، إلى واجهة المفاجآت.
على نحو كهذا، فإن إقرار المحكمة الدولية طوى مرحلة قاسية من الانقسام الداخلي، ومرّر في الوقت نفسه الهواء البارد على انقسام مشابه لمرحلة الأشهر المقبلة، استناداً إلى المعطيات الآتية:
1 ــــــ معلومات مستقاة من سفارة دولة كبرى رجّحت، في إطار تبادلها معلومات دبلوماسية مع سفارات أخرى، أن يُقدم الرئيس إميل لحود في النصف الأول من حزيران على تأليف حكومة ثانية، انطلاقاً من موقفه بأنه لا يسلّم السلطة إلى حكومة يراها غير شرعية وغير ميثاقية، هي حكومة الرئيس فؤاد السنيورة. وهو أمر يشير إلى حجم المأزق الذي ينتظر البلاد في ظل إصرار رئيس الجمهورية على الاجتهاد في ممارسة صلاحياته الدستورية من جهة، وعلى فرض توازن قوى جديد في البلاد من جهة أخرى، لا يقتصر على رفض قوى 14 آذار له، بل على اقترانه بتأييد أفرقاء المعارضة له، ويضع الجيش في حال لا يُحسد عليها بين فكين: ما يجري في الشمال (إذا تأخر في خيار الحسم العسكري)، وما ينتظر اللبنانيين من انقسام أوسع نطاقاً في المؤسسات الدستورية.
ولعلّ خطورة ذلك تكمن في أن قائد الجيش العماد ميشال سليمان أبلغ المسؤولين اللبنانيين، قبل أسابيع، أن الجيش لن يكون في وارد حماية انتخابات رئاسية لا يسبقها اتفاق طرفي النزاع عليها، في محاولة لإخراج المؤسسة العسكرية من دائرة التجاذب والتناحر الداخلي.
2 ــــــ تستعدّ المعارضة لرفض أي خطة تردّد أن قوى 14 آذار تريد اقتراحها عليها في مرحلة ما بعد إقرار المحكمة الدولية، وبغية إدارة مشتركة للاستحقاق الرئاسي. وفي واقع الأمر، طرحت قوى 14 آذار مبادرتها هذه ليل أمس على نحو يجعلها تثق سلفاً بأن الفريق الآخر سيرفضها بلا تردّد. بل يذهب مسؤول بارز في المعارضة إلى القول بأن فريقه لم يعد يرى في تأليف حكومة جديدة، في المدة الفاصلة عن انتخابات رئاسة الجمهورية الخريف المقبل، ما يستحق بذل جهد خاص وتفاوض سياسي مضنٍ من أجل حصوله.
لكن مبادرة قوى 14 آذار لم تتضمّن اقتراحاً كهذا، وربطت تأليف حكومة جديدة بمرحلة ما بعد الاستحقاق الرئاسي.
بذلك، يغنّي كل من الطرفين على ليلاه. ومن خلال مواقف الساعات الأخيرة، يؤكد أنه ذاهب إلى مواجهة جدية ومحتومة.
3 ــــــ بعدما نجحت قوى 14 آذار طوال سنتين في تعبئة الرأي العام اللبناني واجتذابه إلى التحقيق الدولي، ثم إلى المحكمة الدولية لكشف قتلة الرئيس السابق للحكومة اللبنانية، وتحقيق العدالة وضمان مظلة دولية للاستقرار اللبناني ولحياة قادتها، خرجت المحكمة الدولية بعد إقرارها في مجلس الأمن من سياق التعبئة الشعبية، وصار يتعيّن على قوى 14 آذار قيادة معركة سياسية جديدة، بأسلحة ومعايير مختلفة، هي استحقاق 2007. والواضح من مضمون مبادرة قوى 14 آذار أمس، أنها رسمت سلفاً البرنامج السياسي لأي بحث في عمل مشترك بينها والمعارضة على إدارة انتخابات الرئاسة اللبنانية، عبر تركيزها على التزام القرارات الدولية والبنود السبع (وتحديداً تخلّي حزب الله عن سلاحه)، وتوجيه الاهتمام إلى تمسكها بالدستور تعبيراً عن رغبتها في انتخابات رئاسية لا تلحظ تعديلاً لأحكامه (في إشارة مثيرة للانتباه إلى تأكيد هذه القوى باكراً استبعادها من يتطلّب ترشيحهم للاستحقاق تعديلاً دستورياً، أي قائد الجيش وحاكم مصرف لبنان، وكلاهما لم يجهر بذلك).
4 ــــــ الوجه الآخر لمرحلة ما بعد إقرار المحكمة الدولية، الذي يعني في رأي أوساط الغالبية تلاقياً متعمداً في توقيته، هو ربطها بين استعجال دمشق تلويحها بإقبال لبنان على حرب أهلية وفوضى في ظل إقرار المحكمة الدولية، واستمهال حزب الله في إبداء رأيه في هذا الإقرار. وموقفا الطرفين أفضيا في نهاية المطاف إلى رفض القرار 1757.