strong>غسان سعود
  • مساحات العاصمة الخضراء تتقلّص... والبلدية ترى الحلّ في الاستملاك

    تراجعت المساحات الخضراء في لبنان من 60% إلى أقل من 10% من مجمل مساحة الأراضي اللبنانية، وتنخفض هذه النسبة إلى أقل من 2% في العاصمة بيروت التي لم تنفّذ بلديتها شيئاً من وعودها بتحويل العاصمة إلى واحة خضراء، بل تقفل حرج بيروت في وجه زوّاره

    تفاخر بلدية بيروت بوجود 28 «حديقة» فيها، لا تتجاوز مساحة بعضها مئتي متر مربع، فيما يغطي العشب اليابس بعضها الآخر. أما حيث يتوافر العشب الأخضر، كحرج بيروت مثلاً، فيمنع دخول المواطنين. هذا الواقع يختصر جزءاً من مشكلة كبيرة اسمها المساحات الخضراء في لبنان بشكل عام والعاصمة بيروت التي لا تتجاوز المساحات الخضراء فيها 8 أمتار مربعة لكلّ مواطن فيما لا تقلّ في معظم عواصم العالم عن 40 متراً مربعاً وفق بعض التقارير. على رغم هذا يبقى تحويل بيروت إلى «واحة خضراء» وعداً يكرّره مجلس بلدية العاصمة من دون أي إجراء عملي يحمي الحدائق من الإهمال الكبير الذي يكاد يقضي عليها.
    منذ اعتصام المعارضة في وسط العاصمة بيروت، تحوّلت حديقة الصنائع إلى محجّة للأغنياء بعدما احتكرها الفقراء لسنوات طويلة. مياه النافورة التي تتوسط «الصنائع» جفّت منذ أكثر من سنة، وتحوّلت إلى ملعب إضافي لدراجات الأطفال الذين لا يجدون الألعاب التي يفترض توافرها في أماكن مماثلة. والعشب اليابس الذي يجد من يجمعه، لا يجد من يحمله إلى خارج الحديقة. فيما يقضي العمال المكلفون السهر على عدم الإخلال بالنظام، معظم وقتهم نائمين أو يلعبون الورق وطاولة الزهر. ويتخوّف الأهالي من وجود الأفاعي والعقارب بسبب فوضى استعمال المبيدات التي لا تستخدم وفق روزنامة واضحة. حتى دخول الحمام في الحديقة، التي يعود إنشاؤها إلى حقبة العثمانيين، يكاد يتحوّل إلى مغامرة حقيقية قد تنتهي، إذا تأخر الشخص في الداخل، بالتقاطه عدة أمراض.
    هذا الواقع المرّ يعزّز شعور بيروتيين كثر بأن ثمة من يحارب المساحات الخضراء في مدينتهم ويطاردها للنيل منها. وينطلق هؤلاء من واقع الحدائق البيروتية السيئ واستراتيجية إقفال الحرج للمحافظة عليه، مروراً بغضّ الطرف عن الاحتجاجات والتحركات الأهلية المعترضة على تدمير ما بقي من هذه المساحات، وكان أبرزها النادي الفرنسي الذي قطعت منه 176 صنوبرة معمّرة، ووصولاً إلى الوعود التي يكرّرها مجلس بيروت البلدي بتحويل بيروت إلى واحة خضراء ثم يمضي بتجاهل القرارات التي يصدرها هو نفسه.

    وعود وقرارات لا تنفّذ

    وكان ملف المساحات الخضراء في العاصمة حظي باهتمام الكثيرين، فقد لحظ مؤتمر «بلدية بيروت مشاكل وحلول» الذي عقد في حزيران عام 2000 أن أبرز مشاكل بيروت البيئية هي التنظيم المدني العشوائي الذي نجمت منه قلّة المساحات الخضراء والحدائق والفسحات العامة. وأوصى بإيجاد ترابط وتكامل بين وزارة البيئة ومديرية التنظيم المدني ووضع أراضي الدولة في بيروت بتصرّف بلدية بيروت وتحويلها إلى حدائق عامةوعشية الانتخابات البلدية الأخيرة أعلن الرئيس الشهيد رفيق الحريري حق أهل العاصمة عليه بـ«مدينة خضراء يجد فيها الصغار والكبار مساحات عامّة تجمعهم وتدلّلهم»، لكن هذه الوعود لم تنفّذ واستمرّ غزو الكتل الإسمنتية للعاصمة، وازدادت حالة الحدائق العامة بؤساً. وعلى رغم إعلان رئيس بلدية بيروت عبد المنعم العريس في 15 آذار 2006 القرار البلدي الرقم 157 القاضي بإعلان المنفعة العامة على بعض العقارات في مدينة بيروت لإنشاء فسح خضراء تحتها إنشاءات تخصص لاستعمال البلدية وللعموم، فإن شيئاً لم ينفذ. وبقيت الأمور على حالها.
    تعترف عضو بلدية بيروت رولا العجوز بأن مقارنة عملهم، على صعيد المساحات الخضراء، مع المعدل المقبول عالمياً يظهرهم كنقطة مياه في بحر، لكنها تسارع إلى طرح الحل من خلال القول بوجود مخطط لديها تؤمن به وتسعى جاهدة مع المجلس البلدي لتنفيذه، «ولا معنى للكلام عليه قبل بدء التنفيذ». وتوضح العجوز أن قرار استملاك نحو 30 أرضاً في مناطق بيروتية مكتظة اتخذ قبل أكثر من عام، وما زال ينتظر موافقة مجلس الوزراء، لافتةً إلى أن «بلدية بيروت تحتفظ بفائض أموال كبير، لكن طريقة الصرف صعبة جداً، والمشروع المقدّم سيحتاج إلى أكثر من 60% من أموال البلدية، ويتطلب اجتماعات مطولة مع نواب العاصمة والمهندسين المهتمين بهذا الأمر، علماً بأن مجموعة من المهندسين الفرنسيين المنضوين إلى مشروع «إيل دو فرانس» يعكفون منذ بضعة أشهر على وضع مخطط توجيهي عام لواقع المساحات الخضراء في بيروت». وتشكو العجوز من الروتين وافتقار البلدية إلى سلطة تنفيذية، مؤكدة أن «أكبر المشاكل وأهم العوائق أمام إصلاح المساحات الخضراء الموجودة أصلاً اسمه «دفتر الشروط»، حيث يختار ديوان المحاسبة دائماً العرض المقدّم بالسعر الأدنى، الذي لا يعني في كل الحالات السعر الأفضل. وهكذا يتكرر فوز المتعهد نفسه في ترميم الحدائق كل مرة فيقدّم نوعية العمل الرديئة نفسها». وتكشف العجوز أن «الفرنسيين يهيّئون دفاتر شروط تقنية لتأهيل الحدائق الموجودة، واستحداث حدائق جديدة، سيكون أجملها في الرملة البيضاء على مساحة 800 متر مربع»، علماً بأن هذه الحديقة التي افتتحت قبل بضع سنوات بحفل كبير تحوّلت اليوم إلى ما يشبه بورة مهملة تتكدّس فيها الأوساخ، واللافت أن حارساً وبضعة عمال ما زالوا يتقاضون رواتبهم لقاء عملهم فيها.

    تجارب غير مشجّعة

    في المقابل يرى عضو مجلس بلدية بيروت السابق عبد الحميد فاخوري أن المجلس البلدي ليس بهذه «الملائكية». ويتحدث عن تجربتين عاشهما. الأولى تتعلق بميدان سباق الخيل «حيث طلب مع مجموعة كبيرة من البيروتيين نقل «السباق» إلى خارج بيروت أسوة بكل عواصم العالم وتحويل الأرض التي تعود ملكيتها للبلدية إلى حدائق عامة تشكل نقطة وسطية للقاء البيروتيين. لكن كان جواب المعنيين وخصوصاً رئيس المجلس البلدي عبد المنعم العريس أن سباق الخيل من تراث بيروت، ولا يجوز إخراجه منها. وهذا بحسب الفاخوري، بتوجيه وطلب من الوزيرين ميشال فرعون ونبيل دو فريج.
    أما التجربة الثانية فمسرحها أرض الأونروا الشهيرة في فردان، حيث تقدّم الفاخوري يومها (حين كان عضواً في المجلس) بطلب إنشاء موقف للسيارات تحت الأرض يخفف زحمة السير في فردان، وفوقه حديقة، «وإذا بأكثرية المجلس تعترض بحجة أن هذه أجمل أرض في بيروت ولا يجوز تحويلها إلى حديقة. لكن سرعان ما عادوا وقدّموها لسماحة المفتي محمد رشيد قباني ليبني فوقها دار إفتاء». ويؤكد الفاخوري أن المشكلة الرئيسية تتعلق بفلسفة المساحة الخضراء عند المسؤولين البيروتيين الحاليين. وهم، بحسب الفاخوري، «يعتقدون أنهم قدموا إنجازاً كبيراً على هذا الصعيد عبر وضع مشاتل زهور على كورنيش البحر».
    ومن هذه النقطة، ينطلق الأستاذ الجامعي بشار الأمين في قراءته لأزمة المساحات الخضراء في بيروت، ويقول إن أوضح وجوه المشكلة هو عدم احترام المسؤولين معنى الحديقة والتعامل معها كإحدى الكماليات، والدليل إطلاق بلدية بيروت اسم حديقة كلما زرعت بضع أشجار. ويتحدث الأمين عن ثلاثة أنواع من الحدائق. في الأولى، الحديقة المغلقة، يتواجه الإنسان مع الكون، وتعطي هذه الحديقة انطباعاً عن شخصيته. من هنا يسعى كثيرون لإنشاء حديقة أمام منزلهم، تعبّر أيضاً عن مستواهم المادي. وفي الثانية، الحديقة العامة، يلتقي الإنسان بالآخر ويكتشفه ويمارس كل واحد طقوسه الخاصة. أما الثالثة فهي الحديقة التي تتحول مساحة للتعبير عن الآراء والأفكار، وهذه لا تزال غير موجودة بعد في لبنان.
    ويؤكد الأمين أن زائر الحديقة يفترض أن يتمتع بالخصوصية التي يملكها في غرفته الخاصة. ويقارن بين حديقتي السيوفي والصنائع للقول إن «المشكلة في اتجاهين: إدارة الدولة من جهة، والتمايزات في الثقافة الاجتماعية من جهة ثانية». أما حدائق وسط بيروت، فهي «جميلة ومميزة جداً لكن استخدامها ينحصر بفئة معينة، وتشعر الفئات الأخرى بعدم الانتماء إليها وهذه مشكلة يفترض معالجتها». ويدعو الأمين مجلس بلدية بيروت إلى «السعي العملي لتحقيق إنجاز في هذا السياق يبدأ باستملاك كل مساحة خضراء تزيد مساحتها على مئة متر مربع لتحويلها إلى مكان مؤهل لاستقبال كل الناس».

    «حرج بيروت» مقفل ينقسم الحرج الذي تبلغ مساحته نحو 330 ألف متر مربع إلى ثلاثة أقسام. من جهة، قُطعت الأشجار وصُبّ الإسمنت فوق العشب وأقام مجلس بلدية بيروت عدة ملاعب رياضية، وبالقرب من الملاعب ثمة مساحة من الحرج يُسمح للمواطنين بدخولها. وهي واحة رملية محاطة بأشجار النخيل. أما الجزء الأهم (مساحة أكثر من 250 ألف متر مربع)، الذي كلّف اللبنانيين مبالغ طائلة، فما زال مقفلاً في انتظار شركة الحماية الخاصة. وهو يحتاج بحسب المجلس البلدي إلى أكثر من 40 حارساً.
    يقول الأستاذ الجامعي بشار الأمين إن الحرج، يحتضن ذكريات لبنانيين كثر كانوا يقصدونه من مختلف المناطق اللبنانية. ويرى أن المجتمع اللبناني يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى هذه المساحة التي تربط حدود الضاحية الجنوبية وحدود طريق الجديدة، موضحاً أن «تشجيع الناس على احترام المكان العام لا يحتاج إلى شرطة بل إلى ثقافة وسلوك، ما زال المسؤولون بعيدين جداً عنهما».
    من جهة أخرى رعت بلدية بيروت إقامة عدة مراكز حديثة داخل الحرج أبرزها «المدرسة الزراعية الخضراء» التي تشرف عليها البلدية مع جمعية «إيل دو فرانس»، وتديرها جمعية «أرض لبنان»، وتقصدها يومياً مجموعات من تلامذة المدارس فتتجول في الحرج برفقة مهندسين زراعيين ومرشدين بيئيين. وتكشف عضو البلدية رولا العجوز عن قرب إقامة واحد من أجمل المشاتل وأحدثها في العالم، سيطلق في كانون الثاني 2008 «وسيكون على شكل مسرح يوناني وسيُسمّى «المسرح الأخضر»».