فداء عيتاني
كــاكــا والحــائــط وجمهــوريــة الطــوائــف النــاكــرة لأبنــائهــا

«هل اكتشفتَ سرّ عبقرية الأكراد»؟ يسأل الكاتب الكردي نزار أغري من ملجإه الأوروبي نصف ساخر ونصف يائس، وهو من حاول تكريس بعد ثقافي كردي (أو كوردي) خاص خلال وجوده لأعوام في لبنان، مواجهاً حالة من الشتات السياسي والثقافي والعرقي ومحاولات الهروب الدائمة للأكراد من بلدهم الثاني لبنان، ومن أصلهم الكردي الى الانتماء للطائفة السنّية والاندماج في البيارتة.
يقف الوزير (ورئيس الوزراء الحالي) فؤاد السنيورة أمام البرلمان ليقول ساخراً «هيدا الكردي وهيدا الحيط»، ما يتطلب حينها من الرئيس رفيق الحريري تقديم الاعتذار لممثلي الأكراد الذين التقاهم. إلا أن ممثلي الأكراد لطالما تلقّوا الإهانات نيابةً عن شعبهم أو مع شعبهم، علماً بأن ما ارتكبوه لم يشذّ عن الارتكابات اللبنانية الأخرى، ولم يخرج عن الأطر الفردية وخاصة خلال الحرب الأهلية اللبنانية، التي لم توفّرهم من جزيل مذابحها وأيامها السوداء.
يحصل الأكراد على الهوية اللبنانية، بعضهم عام 1956 والأغلبية الأعم من خلال مرسوم التجنيس عام 1994، لكن شبح الظلم لا يرتفع من فوق رؤوسهم. ينتخبون في كل دورة انتخابية، يشاركون في كل مراحل العملية السياسية، ولكن ثمة ما يمنعهم من دخول الندوة البرلمانية أو المجلس البلدي لمدينة بيروت، أو حتى الحصول على المقاعد في انتخابات المخترة. يعانون من انتساب الى السنّة ومن انتماء الى القومية الكردية. يزورون الفائزين بالانتخابات النيابية ليذكرّوهم بما سبق أن أغدقوه عليهم من وعود. بين كل الأسماء التي يتذكّرونها لم يستجب أحد من النواب لمطالبهم وإن كان واحد منهم فقط يتعاطف معهم من دون أن يتمكّن من تحقيق الوعود الكبيرة التي أطلقها رئيس لائحته.
منذ أكثر من ألف عام وصل الأكراد إلى الساحل الممتد من اللاذقية إلى مصر، ومن ضمنه ما سيعرف بعد ألف سنة بساحل لبنان، وبعد ألف عام من بداية الوصول يسأل الشبان الأكراد «ألسنا مواطنين لبنانيين؟ لماذا تذكروننا في الانتخابات وتحرموننا حقنا في الخدمات؟»، بينما سيحاول آلاف الشبان الأكراد الآخرين الذوبان في البركة اللبنانية التي تضم أسماك القرش المعروفة بالطوائف الكريمة.
لا يمتلك تمام سلام تاريخاً تفصيلياً عن الأكراد في لبنان. النائب البيروتي السابق يلتقي الأكراد كلما قرعوا بابه، لكنه لا يدّعي إلماماً بشأنهم. ويعلم مدى الظلم اللاحق بهم، ويتعاطف معهم، إلا أن الواقع اللبناني وهجرتهم الى خارج البلاد، وتناقص عددهم المطّرد في لبنان وطيبتهم المفرطة وتشكّلهم في عائلات (أو عشائر) كلها من الأسباب التي أدت الى ذوبانهم، كما إن صعوبة التحديد الدقيق لأعدادهم الموجودة اليوم (وهي تراوح بين 20 و30 ألفاً في أحسن الأحوال) وتفرّقهم في مناطق السنّة في بيروت دفعت بالنائب السابق سلام الى اعتبار أن الوزن السياسي للأكراد هو عملياً غير مؤثّر في اللعبة السياسية، وإن كان سلام لا يصرّح حرفياً بهذا الكلام، إلا أن تضامنه مع الأكراد وحديثه عنهم يمكن أن يستشف منهما كيف تمت إذابة القوة البشرية للأكراد وتشتيتها في بيروت.
يتحدث المحامي والأديب البيروتي أسامة العارف عن القوم الذين أتوا إلى البلاد في ظروف صعبة مرّّّّوا بها في منطقتهم الجبلية القاسية. المحامي ابن منطقة الطريق الجديدة يتحدث أيضاً عن ظروف العمل الصعبة التي عاناها الأكراد وحاجة الرأسمال اللبناني إلى أيد عاملة رخيصة في بدايات تشكّل البلاد التي ستعرف لاحقاً ببلاد الأرز، والتي ستستنكر ـــ كما يقول توفيق الكردي المرشح مرتين للانتخابات النيابية والبلدية ـــ حمل الأكراد اسم «جمعية الأرز» (الكردية)

منذ ألف عام...

إلا أن الحكاية لم تبدأ من عشرينيات القرن الماضي، فقبل أكثر من ألف عام وصلت الى الساحل مجموعات عسكرية مقاتلة تلبس الألوان الزاهية، وتحمي الثغور والشواطئ من هجمات متفرقة لقراصنة ونظامية لجيوش غير مسلمة. كان هؤلاء الأكراد قد تخلّوا عن ديانتهم الزردشتية والتحقوا بدين الإسلام. ومع وصول الإسلام إلى بلادهم وجبالهم، نشر العرب فيها قلاعاً وحصوناً بقي منها اليوم بعض القرى التي أهمها الراشدية، والتي سينحدر منها المزيد من العرب (المعروفين في لبنان بالأكراد) الى بيروت للعمل وهرباً من الاضطهاد.
قبل ألف عام أدت الغزوات الفرنجية إلى مجيء المزيد من الأكراد، وهم يدعون أنفسهم بالـ«كورد» الى اليوم. يتحدثون لغتهم الخاصة ولهم احتفالاتهم الخاصة، وشعائرهم الاجتماعية، ويحتفلون بالنوروز، وهو عيد الربيع، الذي يعتبر بداية العام ويوم عيد في الديانة الزردشتية، إلا أن إسلامهم أفرغه من مضمونه الديني، وجعله في إطار الاحتفال الفوكلوري. ويتحول هذا اليوم حالياً الى مجرد احتفال قد لا يحضره من الأكراد إلا مئات.
ومع انتصار القائد الكردي صلاح الدين أثبت الأكراد مرة أخرى قدراتهم القتالية والتزامهم الديني، وبقي في أرض الساحل التي ستعرف بلبنان العديد من العشائر الكردية، كما ستصل عشائر أخرى على مرّ الأعوام والقرون.

بعد ألف عام...

مرة واحدة على مرّ التاريخ الطويل، حكم الأكراد أنفسهم في «جمهورية مهاباد» التي عاشت 11 شهراً قبل أن تجتاحها القوات الإيرانية وتنهي وجودها وتنهي حياة الشيخ قاضي محمد مؤسس الدولة الواقعة أقصى شمال غرب إيران حول مدينة مهاباد التي اتخذت كعاصمة. وقبل جمهورية مهاباد كان الحلم الكردي بالحصول على دولة مستقلة مع بدايات انهيار الأمبراطورية العثمانية يدفع الشبان والعشائر إلى القتال ضد الأتراك، «حين شرع قطار الحركات التحررية بالانطلاق أوائل (القرن الماضي) سارع الأكراد إلى اللحاق به... غير أن الرياح لم تجر بما يشتهون لأن من كان بيدهم آنذاك تحرير شهادات ميلاد الدول والكيانات احتاروا في أمر كردستان فتركوها وشأنها... ومنذ ذلك الحين والأكراد في سعي دائب خائب معظم الأحيان الى تغيير ما هم فيه»، كما يورد أغري في كتابه «كاكا والجدار» الصادر في بيروت عام 1996.
وفي بدايات القرن العشرين، كان الأكراد يقاتلون ضد السلطنة وبقاياها، كما حصل إبان قيادة الشيخ محمد لثورته ضد الأتراك عام 1919، محاولاً توحيد كردستان الموزّعة (كما يشرح غازي خميس رئيس حزب رزكاري الكردي المنشق عن محمد عتريس) بين إيران والعراق وسوريا وتركيا وبعض الجيوب في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.
وكان الأكراد حين يهربون من وجه الجنود الأتراك يصل بعضهم الى لبنان، وهم من سيعرف بـ«الكورمانج»، والذين أحسن الفرنسيون معاملتهم في لبنان، ودعموهم وتركوهم يعملون كسبيل لمواصلة تفتيت بقايا الأمبراطورية العثمانية وتشجيع الأعراق على الاستقلال، وأتى هؤلاء الكورمانج بجيرانهم العرب من قرية الراشدية ومن ماردين، وهم بقايا الجيوش العربية، الى لبنان، حيث العمل متوافر والفرنسيون يحسنون معاملة الأكراد. وفي لبنان لقّب العرب أنفسهم بالأكراد ليتلقّوا المعاملة نفسها التي حظي بها الكورمانج.
العرب الأكراد عاشوا بين نقيضين. الأتراك الذين يطالبونهم بالتعاون للقضاء على التمردات الكردية، والأكراد الذين طالبوهم بمساعدتهم للتخلص من نير الظلم العثماني والتركي لاحقاً، وفي لبنان انتهى عهد الانتداب ليجد الأكراد (كورمانجهم وعربهم) أنفسهم في العراء. الجمهورية الجديدة لم تعطهم الجنسية، والفرنسيون رحلوا، ومن يسرد هذه المعلومات التاريخية اليوم يشير الى بقاء موجات من الهجرة المقبلة نحو بلاد الأرز بغية العمل، وهي العادة الشنيعة التي لم يتخلّ عنها الرأسمال اللبناني من استقدام عمال أجانب، مشترطاً انتماءهم إلى طوائف غير مسيحية ليتمكن من تثبيت أسطورة «لبنان الوطن المسيحي المتفوق على محيطه».

المورنة والتجنس

كلما ذكر كردي إسم سامي الصلح أتبعه بـ«رحمه الله»، والترحّم أيضاً يشمل الرئيس رفيق الحريري، إنما ليس كلّما ذكر ولا بالحماسة نفسها. أما «سامي بابا» كما يسمونه فهو من ساعدهم من دون شروط. يروي ذلك رجل كردي في دكان في منطقة زقاق البلاط، كما يرويه المختار الشاب جمال عميرات، وكذلك بهاء الدين حسن رئيس الجمعية الكردية اللبنانية الخيرية، وهو يروي محاولة بعض الرهبان مورنة الأكراد وإعطائهم الجنسية، وهو ما حصل مع بضعة أكراد، إلا أن اكتشاف أرباب عملهم في سوق الخضر للأمر أدى لوصوله إلى الرئيس سامي الصلح آنذاك، الذي قدّم الهويات اللبنانية المسيحية الى رئيس الجمهورية كميل شمعون، وطالب بتجنيس الأكراد في لبنان كمسلمين سنّة، وفتح باب التجنيس أمامهم، وتم إعطاء الجنسية للعديد ممن تقدم منهم، وأوقف المرسوم بعد التخوف من تزايد أعداد المسلمين السنّة.
لا ينفي سياسيون بيارتة أن يكون الصلح قد فكّر في الأبعاد الانتخابية الإيجابية بالنسبة له من تجنيس الأكراد، ولكن المختار جمال عميرات يروي أن الأكراد لم يتقدموا بكثافة بطلبات التجنس عام 1956 إبان حكومة الصلح إما لاعتقادهم بأن الحكومة اللبنانية سترحّلهم إلى تركيا بعد كشفهم عن وجودهم وولادتهم (وهو اعتقاد لا تبرره إلا الهجرة السرية المستمرة للأكراد) وإما لعدم توافر مبلغ ليرة لبنانية واحدة عن كل شخص بدل تقديم الطلب للتجنس. والنتيجة النهائية كانت وقف مورنة الأكراد في لبنان، وتجنيس بضع مئات من عائلاتهم، التي ما لبثت أن ابتعدت الى حد ما عن المجتمع الكردي الكبير في البلاد.
«الكل عدو الحجل والحجل عدو نفسه» يقول غازي خميس، الذي ابتعد عن حزب رزكاري الكردي ليعيد تأسيس حزب رزكاري نفسه، وهو أحد العاملين في ملف تجنيس الأكراد في لبنان. مضيفاً أن الأكراد خافوا من التجنّس في الخمسينيات وكذلك خاف بعضهم من التجنس عام 1994، إلا أن الاغلبية حصلت على الجنسية فأمكن إحصاء أكثر من 12 ألف ملف عائلي في عام 1994 للأكراد اللبنانيين (علماً بأن معدل العائلة الكردية يفوق ثمانية أفراد).
أما أعداء الحجل فهم، وبحسب محمود خضر لا فتاح أحمد (عتريس) رئيس حزب رزكاري، الذين حقه ضمنهم ولا يعطونه للكردي في لبنان، أو بحسب عباراته «إذا طلبت حقي من البطرك صفير فسيقول لي أنت سني، وإذا طلبته من الدروز فسيقولون حقك مع السنّة، وإذا طلبته من السنّة فهم يقولون نحن نمثّلك، ولكنهم ينسوننا أربعة أعوام و11 شهراً ويتذكروننا يوم الانتخابات». بينما يضيف بهاء الدين حسن: «3 أعوام و11 شهراً نحن أكراد، وفي الشهر الأخير نحن مواطنون، ولكنهم لا يكلّفون أنفسهم تهنئتنا بأعيادنا القومية، ولا استنكار المجازر التي تلحق بنا».




وزير التجنيس والمواطنة

يحمل النائب والوزير السابق بشارة مرهج على النظام اللبناني الطائفي، الذي فرّق وميّز بين أبنائه وبين المذاهب. وإن كان مرهج لم يقم خلال حياته السياسية إلا بتجنيس القاطنين في لبنان لكفاه ذلك، وهو اليوم يتحدث عن شوائب قد تكون شابت مرسوم التجنيس، وهو ما أقرّه المجلس الدستوري الذي رفض الطعن بالمرسوم ككل، ويستغرب مرهج تعليق إدخال المحامين اللبنانيين من أصل كردي الى مجلس النقابة بحجة الطعن بالمرسومويقول مرهج إن تجنيس الأكراد تمّ كغيرهم بناءً على استيفاء الشروط، وإن هناك من حاول قبل إقرار مرسوم التجنيس وقبل إطلاق العملية، المجادلة في فلسفة التجنيس، «فهل نجنّس على أساس الدم أم على أساس المواطنة؟ فبعض من يصرّون على نقاء الدم اللبناني حاولوا عدم منح الجنسية الى مستحقيها»، بينما كان مرهج يعتمد على شرعة حقوق الإنسان التي وقّع عليها لبنان منذ عقود طويلة في الأمم المتحدة.
ويشير مرهج الى شذوذ النظام اللبناني حيث يقدّم للأرمن الاعتراف بهم كطائفة وكقومية، ويقدم لهم المقاعد النيابية على هذا الأساس المزدوج، كما يحفظ لهم حصة في الوزارات المتعاقبة، في ما يمكن ان يكون الحالة الوحيدة في العالم، بينما لا يقدم الفرصة لغيرهم من أكراد وغير اكراد إلا التعامل على أساس مذهبي. مضيفاً أن العديد من المضايقات حصلت للاكراد المجنّسين، سواء في دوائر الدخول الى لبنان في المطار، حيث «كنا نضطر أحياناً للذهاب إلى المطار كي نسمح بدخول الأكراد الحاملين للجنسية إلى بلدهمط، أو في دوائر الأحوال الشخصية التي لا تعطي المواليد الأكراد في بعض الأحيان هويات لبنانية، متجاوزة كونهم أبناءً لمواطنين حاصلين على الجنسية اللبنانية.


غداً الحلقة الثانية:الكردي ناخب جيّد ومواطن
مغيّب وتائه بين العواصم