جان عزيز
بعد انقطاع دام أشهراً، عاد السفير الأميركي في بيروت جيفري فيلتمان ليلتقي، بعيداً عن الأضواء والإعلام، العماد ميشال عون. الطرفان حرصا على عدم الإعلان عن اللقاء، كما على عدم التطرق الى مضمونه. والأهم أنهما حرصا كما تردد، على جعله لقاءً ثنائياً بحتاً، الى مائدة عشاء غير سري، قبل أيام.
الأشهر الفاصلة بين آخر زيارة علنية للسفير فيلتمان الى الرابية، وبين العشاء الأخير، كانت حافلة لجهة دلالات العلاقة بين الطرفين.
فعلى أثر تلك الزيارة قبل أشهر، خرجت تسريبات صحافية تتحدث عن أن السفير الأميركي توجه الى عون بكلام يلفته فيه الى «مستقبله السياسي».
الأمر الذي نفاه الطرفان فوراً، لكنه لم يمنع عون من أن يسرّ لاحقاً بأنه قال يوماً لأحد «الدبلوماسيين» الذين زاروه: «يمكنك أن تتهمني بأنني مشروع شهيد ربما، لكن الأكيد أن أحداً لا يمكنه الإشارة الى أنني مشروع عميل». بعد ذلك اللغط، غابت عوكر عن الاتصال المباشر بالرابية، وغابت الأخيرة عن الجدول العادي لجولات الرسميين الأميركيين الزائرين الى بيروت. غير أن المعلومات تفيد أن الاتصال استمر بين الجهتين، وذلك عبر لقاءات دائمة وشبه دورية ظل السفير فيلتمان وبعض معاونيه في السفارة، يعقدونها مع بعض نواب تكتل التغيير والإصلاح.
هل تغيرت هذه الصورة بعد العشاء الأخير بين الجنرال والسفير؟ هل تغير شيء ما أصلاً في الصورة العامة، ما اقتضى حصول اللقاء بعد الانقطاع الطويل؟
المعلومات المتوافرة شديدة الحذر والتكتم لكنها ترسم إزاء السؤال الأول، لوحتين متقابلتين، واحدة عما قصده الطرف الأميركي، وأخرى عما ردده عون. وتشير الى أن فيلتمان عاد على ما يبدو للقاء الجنرال، بعد سلسلة اتصالات تمهيدية أجراها بعض معاونيه، ليؤكد في المبدأ عدم وجود قطيعة دبلوماسية بين إدارته وبين الزعيم المسيحي الأول في لبنان. والأهم أن هذه العودة هدفت الى البحث في إمكانات تسجيل أي خرق في جدار الأزمة الراهنة. ويبدو أن هذا البحث حاول التلميح الى أن ثمة فرصاً عديدة متاحة أمام الجنرال، وفق الرأي المقابل، للإقدام على «مبادرة» ما، تحدث تغييراً في الوضع الراهن.
وإذ تتكتم معلومات الطرفين أكثر عن مجالات مثل تلك المبادرات، تشير أوساط زوار عوكر وملتقي دبلوماسييها، الى أن الأطر النظرية لهذه المبادرات محدودة، وأبرزها الآتي:
1 ــ البحث في أفق حركة الاعتصام الذي يقيمه التفاهم المعارض في وسط العاصمة. وبالتالي البحث في إمكان خطوة «عونية» تؤدي الى نوع من الحلحلة فيه، إن لجهة مكانه أو زمانه أو تعليقه أو إنهائه.
2 ــ البحث في موضوع المحكمة الدولية، ومدى الاستعداد الممكن لدى عون لتمثيل ضمانة فعلية لإقرار نظامها واتفاقها عبر المؤسسات الدستورية.
وكشفت أوساط زوار عوكر، أن هذا الموضوع طرح أمام عون، في زاوية «التقدير» لإعلانه الدائم أنه مع المحكمة وأنه سيصوت لإقرارها في المجلس النيابي. لكنه طرح عليه أيضاً من زاوية الغمز المعبّر جداً، عن أن رئيس المجلس نبيه بري يطرح نفسه حيال الدبلوماسية الأميركية في بيروت، على أنه هو الضمانة لإقرار المحكمة الدولية.
وهو ما تردد أن الإجابة عنه في عوكر كانت دوماً جملة ابتسامات معبّرة متبادلة. ذلك أن فريق السفارة الأميركية في بيروت متوجس جداً ودوماً مما يسميه «الفخ»، المحتمل لقضية المحكمة. وهو الفخ الذي تقدر المعلومات نفسها أن فيلتمان يرى في عون الضمانة الكافية لتخطيه، أقله لجهة احتمال الإقرار عبر المؤسسات الدستورية اللبنانية.
3 ــ البحث في الاستحقاق الرئاسي، آلية وموعداً وسبل إخراج وتحقيق. وذكر أن ثمة أجواءً تشاع عن عوكر، من أن الالتزام بأكثرية ثلثي النواب الـ 128 كشرط لإمرار الانتخابات الرئاسية، هو أمر بات محسوماً، حرصاً على عدم سوق لبنان الى منزلقات خطيرة. وبالتالي فإن هناك ثلاث كتل نيابية تبدو مؤهلة نظرياً لاستكمال هذا النصاب، عبر تفاهم أي منها مع أكثرية السلطة القائمة.
وهي إما كتلة «حزب الله»، وإما كتلة «أمل»، وإما كتلة التغيير والإصلاح. مع ما لهذا العرض من دلالاته التسويقية...
4 ــ البحث في مصير سلاح «حزب الله»، وفي نظرة عون اليه وموقفه منه. وهو المسألة التي بات فيلتمان يحفظ غيباً جواب عون عنها، منذ أكثر من سنة: «لقد سلمّ عليّ سلاحه الى معاوية مرة في التاريخ، وهو لن يكررها مرة ثانية. لذا أنتم ونحن وهم أيضاً في حاجة الى وسيط نزيه يضمن هذه المعادلة. فلا تغتالوا هذا الوسيط في لبنان، كما قضيتم على فرصتكم في أن تكونوه في العراق».
على ضوء هذه المواضيع التي مثّلت محاور البحث، يبدو السؤال عمّا يكون قد تغير إثر العشاء، بعيداً عن أي إجابة جذرية قاطعة.
وهو ما يدفع الى التساؤل عمّا اقتضى حصول اللقاء أصلاً. بعض الجهات التي تابعت الحدث عن بعد، وحاولت وضعه في السياق السياسي العام، تشير الى احتمال من اثنين: إما أن يكون المأزق اللبناني قد عاد الى نقطة الصفر، بعد هدنة ما قبل القمة العربية، وبعد التعادل السلبي الذي سجل في الرياض، وهو ما يدفع ممثلي واشنطن في بيروت الى البحث جدياً في إحداث ثُغر في الحائط المسدود. وإما أن يكون القرار بالتصعيد العسكري، من إيران الى الجنوب اللبناني قد اتُّخذ فعلاً، وأن يكون موعد تنفيذه قد بات وشيكاً، وبالتالي فإن ثمة من يتصرف على طريقة اللهم اشهد أنني قد بلّغت أو حاولت.