غسان سعود
ضد العنف والتقاتل وضد وقوع الشباب في تجربة دمويّة جديدة

بعد الحرب التي خاضتها «القوات اللبنانية» ضد الجيش السوري في زحلة مطلع الثمانينيات، اكتسب المسؤول العسكري القواتي عن تلك المنطقة جو إده هالة بطولية وسط زملائه. عندما وضعت المعارك أوزارها، حضر اده اجتماعاً في المجلس الحربي، وتوجه الى قائد «القوات» آنذاك بشير الجميل، بالقول: «سيدي... نفذ الأمر». يومها صفق له «الرفاق» في المجلس الحربي طويلاً مقدرين له كفاءته العسكرية ووفاءه لبشير، شأنه شأن معظمهم. لكن ما نفذه هؤلاء مع بشير من دون تردد، يستصعبونه مع القيادة الحالية لـ «القوات» التي يرون انها وصلت الى موقعها بانتفاضة دموية عام 1986 على القيادة الشرعية المنتخبة.
وفي موازاة انهماك «القوات اللبنانية» بشؤونها التنظيمية المناطقية، عاد هؤلاء إلى المشهد السياسي، فاجتمعوا بصفتهم «قدامى القوات اللبنانية ومؤسسيها»، وهم يعدّون لإطلاق «جبهة الحرية» بموجب ترخيص رسمي، محاولين «استعادة ما خسرته القوات على الصعيدين التنظيمي الداخلي والسياسي العام». واختار «القدامى» منطقة الكرنتينا، ذات الرمزية القواتية الكبيرة، مقراً لاجتماعاتهم. وبين أبرز الوجوه المؤسسة لـ «الجبهة»: فؤاد أبو ناضر (قائد سابق لـ«القوات»)، مسعود الأشقر (مسؤول بيروت سابقاً)، إيلي أسود (نائب القائد سابقاً)، جو إده (مسؤول الوحدات المقاتلة في زحلة سابقاً)، وابراهيم حداد (قائد المغاوير في «القوات» سابقاً)، وآخرون.
في جلساتهم، يستعيد القادة السابقون ذكريات كثيرة، من زحلة إلى عمشيت مروراً بالأشرفية وعين الرمانة وغيرهما، ويعيدون رسم ملامح «رفاق» يصعب نسيانهم بعدما غيّبتهم الحرب باكراً مثل كرم صدقة، كريم هرموش، سليمان صوايا، كيروز بركات، نعيم بردقان وغيرهم.
من الغصة التي يستدعيها ذكر هذه الأسماء يبدأ رفاق بشير الجميل كلامهم. يأسفون، بداية، لتحول «القوات» من «جسم يُعبّر عن أهداف مسيحية جامعة، إلى مجموعة محازبين يلتفون حول شخص من دون أخذ معايير ضرورية في الحساب»، مؤكدين اشتياق «القواعد القواتية الحقيقية» للمؤسسة التي أرادها مؤسسها «ديموقراطية بكل معنى الكلمة، تكون القيادة فيها مداورة».
ويعيدون مشكلتهم مع القيادة الحالية إلى منتصف الثمانينيات مع «بدء استراتيجيا الانقلاب داخل القوات والاندفاع صوب الاقتتال الدموي المسيحي ـــ المسيحي، وانتزاع قيادة الهيئة التنفيذية بالدم». ويؤكدون أن تلك المرحلة «أسست لقوات لبنانية جديدة خالية من التنوع الداخلي ومفتقدة لغيرة المجتمع المسيحي عليها بمعظم فئاته».
ورداً على سؤال يرى «القدامى» أن «من ترأس القوات اليوم أشبه برئيس مجموعة مؤيدين لا يمتّون إلى تاريخ القوات بصلة»، معربين عن خشيتهم على «القوات ـــ المؤسسة التي بناها بشير» من «غلبة النزوات المضطربة».
يذكّر أسود بما كانت عليه «القوات» يوم أنشئت، وكيف كانت معظم الأحزاب المسيحية اليمينية ممثلة فيها، وكيف حافظت على الديموقراطية في داخلها رغم الهالة التي أحاطت بالرئيس بشير الجميل. ويعرب عن حزنه على اندثار كل فكر «القوات»، وتحولها إلى حزب خاص، فيما كانت مع بشير حالة شعبية.
ويسأل أحدهم باستغراب: «كيف يمكن سمير جعجع أن يقبل بوضع يده في يد النائب وليد جنبلاط رغم كل ما ارتكبه الأخير بحق المسيحيين، فيما يرفض مد يده للأيادي القواتية التي مدت إليه». ولا يخفي خيبته من «انتظار خروج جعجع من السجن بذهنية جديدة، وكشخص متصالح مع نفسه قادر على مواجهة مجتمعه والاعتذار، على الأقل من المسيحيين الذين تسبب لهم بعذابات كثيرة. لكن إذا به يخرج وكأن شيئاً لم يكن».
ويستغرب أحد الموجودين ما «يتبجح به البعض عن تضحيات في سبيل كرامة المجتمع المسيحي، فيما التضحيات الأساسية قدمتها قيادة أوجدها بشير ومجتمع وقف في وجه الغريب لا للتحول لاحقاً إلى حروب مسيحية ـــ مسيحية».
يختصر هؤلاء سبب عزوفهم عن محاولة اصلاح المؤسسة الحزبية الأم من الداخل بـ «عدم وجود حزب اليوم، واقتصار المؤسسة الرسمية على مجموعة أزلام تدين بالولاء لشخص». ويحرصون على التأكيد أن حركتهم «ليست موجهة ضد أحد في الساحة المسيحية، إنما هي حركة تحاول استعادة روحية القوات والدور المسيحي الرائد، وتزكية خيار نبذ العنف والتقاتل، ووأد محاولات استدراج لبنان إلى الفتنة». كما يبدون حرصاً على «عدم وقوع الجيل الصاعد في تجربة دموية جديدة». وينهون الكلام على هذا الصعيد بالتساؤل عن صواب خيار «القوات» بالانقلاب الدموي على الاتفاق الثلاثي عام 1986 لتعود القيادة نفسها وتسير في اتفاق الطائف المتطابق مع الاتفاق الثلاثي بعد خمس سنوات.
تنظيمياً، تتألف الهيئة المؤسسة من 40 شخصاً، هم أبرز قادة «القوات» ومؤسسيها ومقاتليها. والمهمة الأولى التي وضعوها لأنفسهم «استقطاب أكبر عدد ممكن من قدامى القوات ومن الجيل الجديد»، الأمر الذي دفعهم إلى توزيع أنفسهم، فعهدوا بشؤون كل منطقة إلى «محرك» ينشئ بدوره لجنة تستقبل طلبات المؤيدين وتعلمهم بالتطورات. وتجتمع هذه اللجان أسبوعياً بعد يوم من اجتماع الهيئة المؤسسة. ويكشف إده أن «القدامى» نجحوا بالتواصل مع معظم الأفراد السابقين في وحدات أدونيس، بيروت، «فوج المظليين»، «النظاميات»، «المغاوير». ويسجل بإيجابية نجاحهم في «استعادة جزء من الموقع القواتي في كسروان».
وتعد الهيئة بانتخابات رسمية توصل قيادة شرعية تعبّر عن تطلعات القواتيين، وهي تعدّ لأمسية وطنية في 13 نيسان تكون أشبه بالاعلان الرسمي والشعبي عن انطلاقتهم. وتمول المجموعة من اشتراكات الأعضاء الشهرية. . وتنسق «الجبهة» بشكل كبير مع «نمور الأحرار» ومجموعة «سيدة إيليج» التي تضم عدداً كبيراً من قدامى «القوات» ويتركز نشاطها في جرود كسروان. كما تعقد لقاءات مع حزب «الوعد».
في السياسة، يركز الشباب على ضرورة رفع الظلم والاجحاف اللاحقين بالمجتمع المسيحي. ويشددون على أن السيادة تكون أولاً بتحرير الارض، ثم تحرير السلطة والحاكم «من نهج التسلط والاستئثار». ويشدد حداد على أن «خطاب الفريق الحاكم المعلن اليوم يؤكد صحة خيارنا حين اضطررنا إلى حمل البندقية قبل ثلاثين عاماً. لكن الغريب أننا قاومنا التوطين وحدنا، وقاتلنا السوري وحدنا. فيما كان الفريق الحاكم اليوم يخوّننا. وهو الأمر نفسه الذي يتكرر اليوم». ويرى «قدامى القوات» في شعارات 14 آذار السيادية مجرد «تبنّ ظرفي مصلحي لأشخاص من دون حياء». ويسألون بغضب «أين المشاركة المسيحية في لبنان الحر السيد المستقل؟»، لافتين الى أن «الخطر الحقيقي المحدق بالمجتمع المسيحي يتمثل في قرار البعض العودة به إلى زمن الانتفاضات، وقمع أبناء مجتمعه. وفرض توجهات معينة بسلطة المال والاعلام».