فداء عيتاني
الكردي ناخب جيّد ومواطن مغيّب وتائه بين العواصم

يفرح الأكراد يوم بداية الربيع، أو عيد النوروز، حين تجدد الطبيعة نفسها، وهو العيد الذي صار أغلب الشبان الأكراد يشاركون فيه خجلاً، وفي بقية أيام العام يردّدون الأغنية التراثية الحزينة التي يترجمها نزار اغري في أحد كتبه كالتالي:
آه أيها القدر الغادر لماذا فعلت بنا هكذا؟
لماذا عبثت بمصيرنا؟
وتركت أبناءنا في مهبّ الريح
فحطّمت قلوب أصدقائنا
وجعلت الأعداء يفرحون لمرآنا؟
في كردستان يتوزع الأكراد المتحدّرون من العرق الآري على الديانات الإسلامية (سنية) والفيليين (أو الشيعة) والزردشتية والمسيحيين واليزيديين. أما في لبنان فإن الحضور الوحيد هو حضور سني، بحسب ما يقول غازي خميس الذي أعاد تأسيس حزب رزكاري بعد انفصاله عنه. ويؤكد خميس، كما المختار جمال عميرات، أن الأكراد يبتعدون في لبنان عن المذهب الوهابي، ولا يجدون في التقاليد السلفية أي تقارب مع تقاليدهم، ويقتربون دينياً وسياسياً أكثر من جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية ومن الجماعة الإسلامية بحدود أقل. ويلوم الأكراد اللبنانيين والعرب عامة على ما فعلوه بهم. يجلس محمود خضر فتاح أحمد (عتريس) ويرد على هاتفه الذي يطلق أغاني كردية قبل ان يلتفت الى محدثه قائلاً: «نحن من صنعنا المستقبل العربي، ونحن من حرّر القدس وهم ماذا فعلوا؟».

جنسية قيد الدرس

في بدايات عمر الجمهورية اللبنانية أُعطي الأكراد «جنسية غير معينة» بحسب ما يروي خميس، وبفضل هذه الجنسية كان المواليد الجدد يُعطون الجنسية اللبنانية، وحين وصل كمال جنبلاط الى وزارة الداخلية أبدلها بـ«جنسية قيد الدرس» «أعاقت حصول الأكراد على الجنسية وأدت الى أن يدفعوا غالياً بدلات تجديد أوراقهم مرة كل ثلاثة أعوام». البدل كان يصل الى مبلغ 300 ألف ليرة عن كل فرد لتجديد بطاقاتهم، بحسب عميرات.
إلا ان الجنسية الجديدة ذات شوائب: يرفع رجل كردي خمسيني هويته ليظهر مكان الولادة «غير محدد». ويقول عميرات إن عدم ذكر مكان الولادة يعوق المعاملات الرسمية. ويشهر بهاء الدين حسن رئيس الجمعية الكردية اللبنانية الخيرية هويته اللبنانية لتظهر عليها العبارة نفسها في مكان الولادة، ويقول وبطاقته بيده: «لم أحصل على تأشيرة للحج، فالسفارة السعودية رفضت إعطائي سمة الدخول من دون تحديد مكان الولادة». حين وصل الأكراد الى لبنان بصفتهم يداً عاملة رخيصة، حدّدوا تلقائياً أماكن سكنهم: المناطق المتاخمة للوسط التجاري حيث عملوا حمّالين وأجراء لدى تجار الخضر، وكل من يذكر الوسط التجاري قبل الحرب لا بد من أن يذكر الحمّالين الذين يجولون وسلالهم الكبيرة على ظهورهم في سوق النورية وغيره، ويروي خميس كيف انتشر الأكراد في زقاق البلاط والخندق الغميق والبسطا التحتا، وأحزمة البؤس التي لفّت العاصمة قبل ان تحترق في لهيب الحرب والطوائف.
وتطلّب حصول الأكراد على هويات منقوصة مذابح ومعاناة وأهوالاً تشبه الملاحم الإغريقية، إذ تمت تصفيتهم على أساس الطائفة يوم «السبت الأسود» (عام 1975)، بينما كانوا في مرفأ بيروت يعملون حمّالين مياومين، وإن أكثر من يعرف تاريخ المذابح التي تعرّض لها الأكراد هو محمود أحمد الذي يعدّدها بأسماء المناطق: المسلخ والكرنتينا وتل الزعتر، إضافة الى الحواجز الطائفية في مختلف مناطق بيروت. فيما يشير بهاء الدين حسن الى انتقال الأكراد في المراحل اللاحقة من الحرب الأهلية ومن فترة السلم الى السكن في عرمون وبشامون، سواسية مع أترابهم البيارتة الفقراء.
ورغم كلام حفظ الجميل الذي يطلقه كل الأكراد ولا سيما خميس وجمال عميرات، فإن الجلسات المتكررة تجعل القوم يبثّون ما في صدورهم، فمحمود أحمد يقول إن الأكراد لم يحصلوا على الجنسية إلا كغيرهم من المستحقين، وقد أُعطيت لهم بموجب مرسوم جمهوري، بينما يروي بهاء الدين حسن، الذي يشدد على أن قرار التجنيس اتُّخذ في الطائف، لقاءه برفيق الحريري بعد توقيع الأخير على مرسوم الجنسية، حين بادره الحريري بالقول: «لقد وقّعت لكم مرسوم الجنسية»، فأجابه حسن الذي لم تغيّر حياته في لبنان صلابته الكورمانجية البادية على محيّاه وفي عباراته: «اسمح لي دولة الرئيس، نحن أخذنا الجنسية من خلال اتفاق الطائف، وهي جنسية ناقصة في كل الأحوال». ويتفق أعيان الأكراد على أن اللبنانيين يتعاملون بعنصرية معهم، وبينما يبتسم خميس وهو يقول إن عبارة «استكراد» أو «الذوق الكردي» ما زالت تشكل علامة العنصرية، إلا ان العالم اليوم يتبنّى الذوق الكردي عبر ألوان الثياب الزاهية وقصّات الشعر القصيرة. لكن بهاء الدين حسن يتحدث بجدية أكبر وبقهر عميق عن تعامل الشخصيات السنية مع الأكراد، ويروي كيف استقبله عام 1983 رئيس الحكومة الأسبق شفيق الوزان الذي بادره بالقول «أهلاً بالأكراد الذين حرقوا بيروت ونهبوها وسرقوها»، وأجابه يومها حسن في لقاء بدأ عاصفاً وانتهى سريعاً: «هل نحن من سرقنا المرفأ والمطار والمصارف في الوسط التجاري؟».

الهجرة وضرب النفير

السيرة الذاتية للأكراد تقول إن موسم الهجرة تلا مرحلة التعلّم التي خاضها الأطفال الأكراد بمشقة منذ الستينات، وبدأ المسير نحو الغرب، وتكثّفت الهجرة في مرحلة حكم أمين الجميل، وشملت ألمانيا وفرنسا والدانمارك وأسوج والنروج، إلا ان السيرة الذاتية أيضاً تؤكد إمداد الأكراد لأهلهم بالأموال والرساميل الصغيرة، وبأسباب الحياة، وإعادة جثامين المتوفّين للدفن في وطنهم.
«يحرق قلب الأكراد عدم معاملتهم مثل الأرمن، ويشعرون بأنهم مهمّشون ومغبونون لدى زعماء الطائفة، وعتبهم اليوم هو على نواب كتلة الحريري»، يقول عميرات الذي بات وشقيقه وبعض الشبان يقودون جمعيات ومنظمات أهلية وعائلية كردية تسعى إلى المنافسة في لعبة الانتخابات البيروتية. ولا يسع بهاء الدين حسن إلا التحسّر على كون الأكراد محسوبين على الطائفة السنية. ثم يروي عن لقائه مع مرجعية دينية، حين سأله حسن: «هل نحن مسلمون أم لا؟»، فأجابه المرجع الديني: «كيف تسأل وأنتم أحفاد صلاح الدين؟»، فردّ حسن: «لأنكم تنسون وجودنا، وحين تحصل عمليات ضدنا في العراق لا نسمع صوتكم»، ويضيف حسن ان استنكار المجازر التي تطاول المسلمين في كل العالم يتم خلال ساعات، «أما الأكراد فشأن آخر».
وثمة وجه آخر للغبن السياسي والاجتماعي وهو الخلفية العنصرية التي تبدأ بالعزل والحجر وتنتهي بالسخرية والاحتقار. محمود أحمد يقول إن البيارتة لا يشاركون الأكراد في الصلاة على أمواتهم، ولا يعزّونهم، ويتركون المسجد حين دخول جنازة كردية. «نحن بيارتة عند الانتخاب وأكراد لحظة المطالبة بالوظائف»، يقول الرجل الذي يتجوّل ابنه المراهق خارج القاعة وهو أشبه بأي مراهق من الأشرفية أو شارع الحمراء أو جونيه.
«نائبان للعلويين في الشمال ونحن في بيروت 25 ألف ناخب (مقيم) وليس لنا نائب واحد» يقول محمد عميرات، ويقاطعه توفيق الكردي: «نستقدم أمواتنا من ألمانيا أو غيرها وندفع مبالغ طائلة، ونسمع كلاماً من قبيل: مقبرة الباشورة أصبحت أغلبيتها من الأكراد، اذهبو وادفنوا في أماكن أخرى».
تشهد الصحف في فترات الانتخابات النيابية والبلدية على زيارات يقوم بها أقطاب بيارتة إلى مواطنيهم الأرمن، وإلى جمعيات سياسية ودينية مؤثرة (وإن كانت لا تملك أكثر من خمسة آلاف صوت)، وتشهد على دعوات رسمية لشخصيات سياسية إلى لقاءات انتخابية، «أما حين يتعلق الأمر بالأكراد فإن ماكينات الحريري الانتخابية تضرب النفير في الشارع، وتعلن استقبال الرئيس للأكراد جماعياً، فيذهب العامة وعلّيّة القوم معاً من دون تمييز أو تنظيم، ويسألهم الحريري: «ماذا لديكم من مطالب؟»، وتأتي الإجابات عشوائية، فينتهي الأمر بلا شيء»، كما يقول جمال عميرات، ويضيف: «وبعد مراجعة ذاتية تبيّن لنا ان المشكلة كامنة فينا أيضاً».

الرهان على الانشقاق

«لا ثقل انتخابياً لنا لأنه لطالما جرى تمزيقنا، ومنذ انتهاء الحرب لم نحصل سوى على الوعود، وكل ما كنا نطلبه هو خدمات بسيطة، والوعود أتت بتعيين مستشار دائم في الحكومة اللبنانية للشؤون الكردية»، يقول بهاء الدين حسن الذي يشير إلى ان نصف الأكراد ينتخبون الحريري، بينما يتوزع الباقون على جمعية المشاريع (الأحباش) والجماعة الإسلامية وقوى مختلفة.
ويعتبر محمود أحمد أن الزعماء السنّة في بيروت عملوا طويلاً على تفكيك الأكراد، «ووعود الحريري للأكراد أدت الى خلافات بيننا. كان يقول: البيارتة لا يوافقون على دخول الأكراد المجلس البلدي لبيروت»، أما عن العلاقة مع سعد الحريري فهي، وبحسب أحمد، تواصل النهج نفسه، «لم نلتق به الى اليوم، وربما لا يعلم بوجود الأكراد، وكان رفيق الحريري قد وعدنا بأخذ نائب كردي على لائحته، ووعدنا بأرض لمدرسة كردية، ومستوصف، ولكننا لم نحصل على شيء من هذا».
ويتحدث بهاء الدين حسن عن طموح جمعيته إلى إنشاء مركز كردي ثقافي اجتماعي، «طرحنا الأمر على رفيق الحريري لإعطائنا الأرض من البلدية، واشترط الحريري ان يكون المطلب محط توافق وإجماع كردي، وفي بداية عام 2004 أرسلت له كتاباً رسمياً يعلن دعم الموقّعين عليه إنشاء المركز لمصلحة الجمعية الخيرية الكردية، ووقّع عليه كل من حزب رزكاري، والجمعية اللبنانية الاجتماعية، والرابطة الثقافية والإنسانية الكردية اللبنانية، واتحاد الطلبة الأكراد، ومجلس الأعيان، ورابطة آل عميرات، ومؤسسة شيخ موسى العمري، إلا أننا لم نحصل على جواب من الرئيس الحريري».
ينتخب الأكراد في شتات من الأصوات، وإلى اليوم لم تتوحّد الكتلة الناخبة لديهم كما هو الأمر عند الأرمن، ويعتبر خميس ان الانشقاق الكردي يماثل الانشقاق اللبناني بين مشروعين في المنطقة، ولكن الشعب الكردي لا ينكر فضل الحريري، كما يؤكد خميس، إذ صوتوا له إضافة إلى مرشحين آخرين، إلا أن الوفاء انتهى: «انتخابات عام 2005 كانت هي محطة الوفاء الأخيرة لرفيق الحريري، أما اليوم فإن الكردي حرًّ».
والأمر نفسه يؤكده جمال عميرات الذي يصف شعبه بالمخلص والعطوف، مضيفاً ان «المرحوم الحريري أكثر سياسي لبناني استفاد من الشعب الكردي»، ويضيف أحمد إلى ما سبق ان «زعماء السنّة يبثّون بين الناس دعاية مضادة قائلين إن فلاناً أصله كردي فلا تنتخبوه، في الوقت الذي نحصل فيه على أصوات شيعية في بيروت».
ورغم ان بهاء الدين حسن يؤكد عدم تخلّي الأكراد عن قميص السنّة، إلا أنهم يمكن أن يطالبوا «بأن نكون طائفة أقلية كردية لنحصل على حقوقنا». ويذهب محمود أحمد أبعد من ذلك: «سيأتي جيل متعلّم من بعدنا ويحصل على حقوقه، وإذا لم نحصل عليها فنحن جاهزون للتشيّع».

الكردي الجيد كردي ناخب

يعجب محمود أحمد من معرفة المرشحين لمنازل الأكراد قبيل الانتخابات حيث تكون هذه المنازل محطّ الزيارات ومقصد الوعود، إلا ان تورّط بعض الشبان الأكراد في أحداث 23 و25 كانون الثاني لم يحرّك ساكناً لدى نواب تيار المستقبل في بيروت، كما يقول جمال عميرات الذي يضيف ان من اعتقل من الشبان ترك لشأنه.
ويتحدث أحد الزعماء الأكراد عن «بيع الأكراد انتخابياً»، ويضيف: «لن نعترض على بيعنا، ولكن ليرفعوا السعر قليلاً، فمن المخجل ان نعرف أنه تمت المقايضة على أصوات شعبنا مقابل بضعة آلاف من الدولارات».
«في لبنان الكل يقدّم الخدمات لطوائفهم، ولكن ماذا في شأننا نحن؟ وحين يقبض أحد الأعيان بدلاً عن أصوات الأكراد، فلماذا سيساعدنا النائب بعد وصوله للبرلمان وقد دفع ثمن انتخابه؟»، يقول محمد عميرات. وبينما تتعثّر العلاقات مع أقطاب السنّة، وخاصة مع ملاحظة الأكراد ان «الأرمن يصوّتون في بيروت بحجم 6 آلاف صوت، ونحن نصوّت بـ 12 ألفاً، وهم لهم نواب مكرّسون ونحن ليس لنا شيء»، بحسب محمود أحمد. ويشير بهاء الدين حسن بأسى إلى طلبه موعداً من سعد الحريري «ولكنه أحالنا على أحد مستشاريه». وتكمل أمينة سر الجمعية الخيرية بالقول: «تجربتنا مع الوسطاء سيئة، ورفضنا لقاء عدنان الفاكهاني».
«كل ما نريده من زعماء السنّة هو أخذنا بعين الاعتبار في الانتخابات البلدية والنيابية والاختيارية» يقول محمد عميرات. قبل ان يضيف توفيق الكردي: «لو كان لدينا نائب واحد لما أرّقنا موضوع الجنسية ولما تعذبنا للحصول على تعريف. وفي عام 1998 اتفق الأكراد على ترشيحي للانتخابات البلدية، إلا ان رفيق الحريري استقبلنا ليطلب منا الانسحاب، ووافقت شرط ان يحقق مطلباًَ واحداً للأكراد، حتى نقول لجمهورنا إننا حقّقنا مطلباً، إلا انه رفض، وقال: «هذه المرة لا مجال، أخبرني بما تريده أنت، أما الوصول الى البلدية في بيروت فالبيارتة يرفضون دخول كردي مجلس المدينة». «وعلى رغم ذلك خضت الانتخابات وجرحت زجاج العزل»، يقول الشاب الذي يحضّر نفسه لانتخابات مقبلة بشعار «الصوت الكردي للمرشح الكردي».
كل ما سبق يدفع بمحمد عميرات إلى تصويب النقاش: «نريد ردم الهوة مع إخوتنا في بيروت ومشكلتنا محصورة في الزعامات البيروتية التي تمنعنا من تحقيق حجمنا. ونعلم جيداً انه غير مرغوب فينا لدى الآخرين، ولذا نحاول تجنّب النزاعات وندرس خطواتنا».
ويعرف الأكراد انه «لا تنظيم حقيقياً يمثّلنا جميعاً إلا أننا نتعلم الكثير من الأمور يوماً إثر آخر. وبعد ان نصنع وجوداً لنا سنقدم للنواب البيارتة لائحة المطالب»، بحسب جمال عميرات. بينما يقول محمد عميرات: «نتجه الى التنسيق مع كل الأطراف الكردية الأخرى لنزيل الشتات السابق للأكراد في لبنان الذي كان أحد أكبر أسبابه هو أن الأكراد يرون في عدد من قادتهم سماسرة يبيعونهم من هذه الجهة أو تلك».




الدولة الكردية على أراضي البسطة

  • أنصار حزب العمّال الكردستاني يعتصمون بعد اعتقال زعيمهم عبد الله أوجلان (أرشيف - عفيف دياب)

    أنصار حزب العمّال الكردستاني يعتصمون بعد اعتقال زعيمهم عبد الله أوجلان (أرشيف - عفيف دياب)