رنا حايك
يعيش أربعون صياداً في ميناء الدالية والمنطقة المتاخمة له في منطقة الروشة، حيث يعتاشون من البحر. يغضبهم الغبن الذي يعانونه كمواطنين، إذ لا حقوق لهم في الرعاية الصحية والاجتماعية وتتنازعهم الحساسيات الطائفية والسياسية عينها التي تعصف بالوطن الكائن على بعد كيلومترات من عزلتهم
يُعرَف عن البحر غدره وعن الصياد صبره... أما صيادو ميناء الدالية المتاخم لصخرة الروشة، فلا يُعرَف عنهم الكثير. على هامش القانون، على هامش الوطن وعلى هامش العائلة يعيشون. هم فقراء، يأكلون إذا أطعمهم البحر ويصومون مع صيام سمكه.
بيوتهم معظمها من الصفيح ولياليهم تؤرّقها “كبسات” الدرك المتواترة حسب أهواء السلطة وحساباتها، أما نهاراتهم، فرزق قليل وتأفّف من مجموعة العوامل التي تُنقص الغلّة مثل الدخلاء على المهنة وكثرة المنشآت البحرية وردم الشاطئ.
معظمهم لم يعرف بيتاً غير الكوخ البحري في الدالية. بعضهم ولد هناك لآباء وأجداد عملوا في البحر مثل حال المنتمين إلى عائلة عيتاني البيروتية، وهم الأكثرية.
البعض الآخر ولد يتيماً وغريباً كأحمد حرب، الكردي الذي احتضنه الصيادون في الميناء وعلّموه الصيد فـ“سرق منهم المهنة”، كما يتندّرون ممازحين. ومنهم من جاب الساحل من الشمال إلى الجنوب قبل أن يحطّ رحاله هنا، مثل حكم الفلسطيني الذي غادر مخيم العبدة في عكار بعد وفاة والديه وعمل في الكثير من الموانئ قبل أن يستقرّ في الدالية منذ 15 سنةأما من تيتّم، فقد وجد في هذه البيئة من يحتضنه، ومنهم محمود صالح الذي فقد والده باكراً فتلقى وأخواته رعاية أبو فريد، ذلك الصياد السبعيني الذي فقد عيناً وهو يحفر في الصخر مغارة أصبحت بيته في ما بعد، وهو بيت لم ترض به أي عروس فحُكم على أبو فريد بالعنوسة.
أما أحمد عيتاني، فلم يعرف مدرسة غير الشاطئ، إذ كان يهرب إليه من ساعات الدرس الطويلة وعصا المعلمة ليلتحق بإخوته الصيادين. لم يكره البحر الذي ابتلع أباه قبل أن تتسنّى له رؤيته، بل أحبّه وعاد إليه خلال الحرب بعدما كان قد انصرف عنه للعمل في المطار. وحين أدّت الحرب إلى انقطاع معاشه الشهري عاد إليه لإطعام أطفاله الستة: “كانت هناك بَرَكة في البحر، يوميّتي كانت تصل إلى عشرين ليرة في اليوم، أما الآن فقد زالت البركة”.
في الوقت الراهن يصنع الأقفاص كما تعلّم صُنْعها منذ سنوات على يديّ نساء كسروان، ويبيعها من زملائه خلال الشتاء بينما يتفرّغ للصيد في الصيف. أما الأولاد، مثلهم كمثل جميع أبناء زملائه، فعلّمهم حب البحر ولكنه أقصاهم عن مهنة الصيد التي هي مهنة “فقر وعذاب”. مهنة لا سند فيها لمزاولها ولا ضمانات ولا مستقبل، وقد زاد من مشاكلها الدخلاء الهواة الذين يتصيّدون عن غير دراية فيقتلون السمك في موسم “تفقيس البيض”، وردم الشواطئ الذي أسفر عن مسابح يؤمّها البشر بكثرة فيهجرها السمك.
يستفزّ أحمد مشهدُ الطلاب الذين يهربون من المدارس ليقصدوا ربوع الدالية متأبطين كتباً وذراع عشيق. “يأتون إلى هنا لأخذ دروس خصوصية”، يقول غامزاً، ويضيف: “طلبنا من الدرك أن يكثّفوا الدوريات لمنع هذا التسيّب، فأجابوا بأنه لا دخل لهم. إعملوا متلن إذا بدكن. شو منعملكن؟! قالوا لنا”، ينهي أحمد حديثه بالترحّم على أيام زمان ولعن الحالة التي وصلنا إليها.
يستحمّ صيادو الدالية بمياه البحر المعدّل ملحها بالكاد، وينامون في أكواخهم الرطبة بينما يحصلون على الكهرباء من اشتراكات “مولّد” أحد الجيران. خسروا معركتهم النقابية للاستفادة من الضمان فتعايشوا مع أمراضهم كما فعل محمد العيتاني أو توصّلوا إلى علاجها من مساعدات الزبائن وهبات بعض الجمعيات والمؤسساتيشعرون بالغبن الذي يتكرر كلما انتشلوا غريقاً واستُدرجوا إلى التحقيق. غبن يجعل رئيس تعاونية الصيادين أو “تعاونية الشحاذين”، كما يحلو له تسميتها، وفيق الجيزي يمتنع عن توريث المهنة لأبنائه الذين يعجز عن دفع أقساطهم المدرسية، وفي أغلب الأوقات عن مساعدة المنتسبين إلى التعاونية الذين يصل عددهم إلى 280 عضواً، بسبب فقر الصندوق. وغبن ينتابهم كلما نظروا إلى المقاهي المفتتحة حديثاً بسبب “الواسطة” والمحسوبيات، التي تنهش من المكان الممنوع عليهم.
غبن إضافي استجدّ بعد العدوان الأخير على لبنان وتلوّث البحر الذي زاد من خسائرهم. فقد نظّفوا الفيول بأياديهم. علي، الذي “اصطفّ مثله مثل الفلسطيني أمام الجوامع ليأكل خلال العدوان”، أرسل ابنه ليضع أقفاصاً في الماء لعلّه يُرزق ببعض السمك، فصعد ابنه “أسود كأنه سيرلانكياً”، على حد تعبيره.
محمود يحتقر اضطراره إلى التوسّط لدى الزعماء الذين يسايرهم لنيل حق تمنعه عنه السلطة، فيما يستفيد منه الأجانب. حقه كمواطن في العمل والرعاية الصحية والاجتماعية وفي العيش بكرامة واستقرار في منأى عن كبسات الدرك التي لا تنتهي.
ولكبسات الدرك قصة تتداخل مع قصص أخرى يبقى الحديث عنها في نطاق المحرّمات اللبنانية. فهي تتركّز على أكواخ التنك التي تتاخم المباني والمغارات الشرعية للصيادين المنتسبين إلى النقابة وإلى التعاونية. هذه الأكواخ قديمة ويؤكد أصحابها أن عددها لا يتزايد كما تزعم الإخباريات المتتالية.
تتعقّد الأمور وتتشابك بعد العدوان وملف التعويضات، إذ تزيد الحساسيات بين مناصري الحكومة ومناصري المعارضة و“حزب الله”. ينفّس بعض الصيادين عن غضبهم من “المسنودين” الذين يحاولون “تطفيشهم”، لكنهم سرعان ما يستدركون طالبين حذف كلامهم وأسمائهم. فأكواخهم هي كل ما يملكون والبحر هو أفقهم الوحيد.
أما الدالية فتبدو بهدوئها وسكونها وطناً بركاناً لا تقلّ حدّة التشنّجات الطائفية والسياسية فيه عن تلك التي تتآكل الوطن الأوسع. تغرق بهدوء في فقر صياديها وصبرهم، تستسلم كما يستسلمون لرذاذ مالح يختزل طعم الوطن وتغوص في دوامة التجاهل الرسمي التام.




«بعبورة»، «الزعيم»، و«النسر الطائر»يذكر أبو فريد عيتاني، المعروف بـ“الهنداوي”، زميله “الزعيم” بالخير، فقد أتى له بمبلغ مئة دولار من صياد قديم هاجر إلى أميركا و“فتحها الله بوجهه”. أما أحمد عيتاني، أو “بعبورة”، كما يحلو لزملائه مناداته، فينكبّ على صنع قفص الصيد، بينما تتدلى سيجارة “السيدرز” من شفتيه. ينتزعها ليجيب: “ربما شكّل انتماء معظمنا إلى عائلة عيتاني السبب الأساسي في إطلاق الألقاب على بعضنا البعض”. هذه الألقاب التي لا تأتي من فراغ، فعلي عيتاني، بطل القفز الذي يزن 150 كيلوغراماً، أصبح “علي الدب”، بينما سُمّي أخوه محمد، الذي ارتبط اسمه أيضاً بالقفز من صخرة الروشة، “النسر الطائر”. بعض الألقاب “تتراكم”، فيصبح أحمد المصري، الذي سمّي كذلك لأن جده كان مصرياً وتزوّج بلبنانية، أحمد حاكوكي، على رغم أن حاكوكي لا ترتبط بموهبة الرجل السبعيني المولع بفن الطبخ. هذا الفن الذي تعلّمه من والدته التي يذكرها بالخير وهو يقلّب طبخة “مغمور” تنشر رائحةً زكيةً في أنحاء المينا.




علي وعلاقة بالبحر لا تنتهي

يلتقط علي عيتاني نظرة كنا نسترقها إلى الوشم المكتوب على ذراعه المكتنزة: “هنادي مطرحك بقلبي”، فيستبق التعليق بالقول: “هنادي كانت زوجتي، وهذا الوشم من أيام الجهل والمراهقة. هي من عائلة “كبيرة” من مهاجري أبيدجان، أبوها كان من الأبطال، أشهر قنّاص على محور الشياح ــ عين الرمانة، قتله عناصر القوات اللبنانية في الحرب”. أحبّت هنادي علي فتزوجها. شبعت حبّاً وجاعت من الفقر فسكبت الكاز على نفسها وأضرمت النار، “لم تمت وكان الطلاق الحل الوحيد”، يقول علي.
حبّ علي لهنادي ليس إلا جزءاً من قصة حياته التي ارتبطت بالبحر وميناء الدالية حيث ترعرع. عاش جدّه 117 سنة في تلك الربوع يربّي الماعز فورث عنه هواية تربية الدواجن بعدما منعه مرضه من مزاولة صيد السمك: “أقدامي متورّمة ومتقرّحة بفعل “الملوحات” وكليتي تحتاج إلى عملية لا أملك كلفة إجرائها”.
تغيّرت علاقة علي بالبحر على امتداد العقود، لكنها لم تنته: فقد ربّى أطفاله الخمسة من رزقه، ولوّح بعلم لبنان عالياً وهو يقفز من صخرة الروشة، ثم اكتفى به مشهداً يختزل الوطن لا يفارقه منذ خمس سنوات حتى اليوم.
شارك علي في معظم دورات سباق القفز من صخرة الروشة وأحرز عدّة بطولات خلالها. لكنها لم تترك له سوى بعض الصور وكأس من دورة 1991 وصندوق بسكويت “سامبا”.
يتحدث بسخرية عن الأجر الذي كان يــــــــــتقاضاه عن مشاركاته: مئتا ألف ليرة، كنزات وقــــــــــبعات، وفي إحدى المرّات صـــــــندوق البسكويت من “سامبا”.
الآن، بعد هذا العمر، يعيش علي من مساعدة “أبناء الحلال” وتعاونية الصيادين، ويؤجّر قصبات الصيد للهواة والمراكب للعشاق والسياح ويبيعهم القهوة. أما بناته الثلاث اللواتي يشكلن مع التلفزيون صلته الوحيدة بالعالم الخارجي، فيأتي بهن من مؤسسة الأيتام الداخلية ليقضين معه أيام السبت حين يتوافر لديه المال لذلك.