نقولا ناصيف
قدّمت الغالبية النيابية والمعارضة، البارحة، عرض عضلات متبادلاً في البرلمان، أفضى إلى خلاصة واحدة، هي أن أياً منهما ــ كما في الشارع ــ لا يملك القوة التي تمكّنه من حسم الخلاف السياسي لمصلحته، وتغليب خياره على ندّه. تالياً أظهر طرفا النزاع أقصى ما يملكان في لعبة الصراع المحلي والحدود التي يمكن أن يبلغاها. وتعكس هذه الخلاصة نتيجتين:
أولاهما أن كلاً منهما في حاجة إلى الآخر من أجل إدارة السلطة الاشتراعية. من دون الرئيس نبيه بري الذي يملك وحده صلاحية دعوة مجلس النواب إلى الالتئام، لا فائدة من وجود أكثرية نيابية في يد فريق دون آخر ما دام عاجزاً عن استخدام فاعليتها. في المقابل من دون فريق الغالبية القادرة على ترجيح كفة القرار، لن يكون في وسع المعارضة التوصل إلى أي هدف حكومي أو سياسي. في بساطة أكثر، لا مجلس نيابياً من دون بري، ولا حكومة من دون الغالبية.
وثانيهما أن لا مصلحة لأيّ من الغالبية والمعارضة في تسعير التشنج خارج نطاق السجالات السياسية، ونقل الصراع من المجلس ــ وإن فاقد الدور ــ إلى الشارع الذي يعيد إلى الأذهان صورة الاشتباك المذهبي الدامي في 25 كانون الثاني الفائت.
والواضح أن الضابط الوحيد للحؤول دون أي تصعيد يقود إلى الفلتان والتسيّب، هو المشكلة المذهبية التي ترخي ظلالها على كل الملفات الداخلية الساخنة. يصحّ ذلك القول إن قوى 14 آذار غير قادرة على تجاوز بري وموقعه، كما يصحّ القول إن بري نفسه غير قادر ــ أياً تكن الأسباب والدوافع ــ على تخطي الرئيس إميل لحود وموقعه. الأمر نفسه بالنسبة إلى رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، الواقع بين فكّي لحود وبري نظراً إلى تشابك صلاحياته الدستورية وتداخلها مع صلاحيات كل من رئيسي الجمهورية والمجلس.
وهكذا دخل لحود وبري والسنيورة في دوامة صلاحياتهم ومآزقها، وفي الوقت نفسه يبدون في صراعاتهم السياسية على حافة دفع الوضع الداخلي إلى نزاع مذهبي.
على أن السجال الدائر، مباشرة أو بالواسطة، بين رئيسي المجلس والحكومة في الأسابيع الأخيرة، أبرز وجهاً جديداً للمشكلة سيربك السنيورة ويقيّد من قدرته على التحرّك داخلياً وكذلك قوى 14 آذار، هو مفاعيل الصلاحيات التي ينيطها الدستور والنظام الداخلي لمجلس النواب برئيسه. وكان بري قد لمّح في الساعات المنصرمة أمام زواره إلى جملة مؤشرات يتوقع أن تترتب على استخدامه صلاحياته في المرحلة المقبلة، فأكد أمام هؤلاء:
ــ أنه سيمارس حقه الدستوري كاملاً في توجيه الدعوة إلى مجلس النواب لانتخاب رئيس للجمهورية، وأنه سيحدّد أكثر من موعد لأكثر من جلسة قد يتطلبها التئام البرلمان بالنصاب الدستوري المطلوب لانتخاب الرئيس المقبل.
ــ وأنه بالصلاحيات نفسها سيمنع الحكومة التي لا يزال يعتبرها غير شرعية وغير دستورية من حضور جلسة انتخاب الرئيس الجديد في القاعة العامة، ما خلا الوزراء النواب الذين سيشاركون في الاقتراع. وهي إشارة ذات مغزى إلى أن المنع سيشمل تحديداً رئيس الحكومة الذي هو ليس نائباً لأن انعقاد المجلس يكون بصفته هيئة ناخبة، إلا إذا رغب السنيورة في الحضور من الشرفات المخصصة للضيوف. والأحرى أنه سيلجأ إلى تصرّف كهذا في حال راوحت المشكلة مكانها حتى موعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، واستمرت حكومة السنيورة غير دستورية وغير شرعية بالنسبة إلى رئيس المجلس.
ــ وأنه عندما سيدعو مجلس النواب إلى الانعقاد قبل نهاية العقد العادي الأول (31 أيار)، فلن يسمح للحكومة بالمثول أمامه ما دامت تتمتع بالصفة نفسها التي يقارب بها كيانها الدستوري الحالي.
ــ يلاحظ رئيس المجلس أن وفرة الوفود الأوروبية والأميركية التي تزور لبنان، بما فيها زيارة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أخيراً، تبدو غير مطّلعة تماماً على عمق المشكلة الداخلية وتوازن الطوائف والمذاهب في الاشتباك السياسي ودقته، وغير ملمّة تماماً بالآلية الدستورية اللبنانية المعقدة، مكتفية إما بالاستفسار عن سبب تجميد عمل المؤسسات الدستورية اللبنانية، أو بطرح أفكار عامة تنطلق منها كي تطلب مواقف محدّدة، الأمر الذي كان يحمل بري على أن يسهب لزواره هؤلاء في شرح الدستور اللبناني وحدود صلاحيات المؤسسات فيه، والتوازنات السياسية والطائفية التي يراعيها، إلى أن يخلص رئيس المجلس إلى إبراز مبررات موقفه وتمسكه بصلاحياته التي تمكّنه وحده ــ تبعاً للمصلحة والواقع الداخلي المعقد ــ من أن يدعو المجلس إلى الانعقاد أو لا يدعوه.
وفي واقع الأمر، فإن المواجهة بين قوى 14 آذار والمعارضة تقف اليوم عند حدود صلاحيات رئيس المجلس، وخصوصاً أن الأخير أضحى الآن، على أبواب أكثر من استحقاق داخلي، اللاعب الأكثر استقطاباً ومقدرة على التحرّك، وفي الوقت نفسه على رأس المؤسسة التي تتحكم بمصير المؤسستين الدستوريتين الأخريين: رئاسة الجمهورية المعطّلة الدور، والسلطة التنفيذية المشلولة الفاعلية ما دامت غير قادرة على إيصال مشاريع قوانينها إلى البرلمان، الأمر الذي يؤول إلى ملاحظة باتت في صلب السجال الساخن، هي الصلاحيات الدستورية والقانونية المنوطة برئيس المجلس، والتي أصبحت أشبه بامتياز ممنوح للطائفة الشيعية كي تملك حق النقض في المعادلة الداخلية.
وأكثر من أي وقت مضى، على مرّ تاريخ الحياة البرلمانية اللبنانية، لم يخطر في بال أحد يوماً، أن صلاحية تقنية محدودة معطاة لرئيس المجلس، هي أن يدعو الهيئة العامة إلى الانعقاد، باتت مفتاح نزاع مذهبي وسلاحاً ذهبياً في يد رئيس المجلس كي يقيم توازناً سياسياً بينه وبين رئيس الحكومة، وبين الأخير ورئيس الجمهورية. والذين يذكرون طويلاً النزاعات المديدة بين رئيس المجلس ورئيس الجمهورية منذ الاستقلال وحتى حقبة اتفاق الطائف، يستعيدون اعتقاد الطائفة الشيعية بأن موقع رئيس المجلس كان دائماً أسير ردود فعل رئيس الجمهورية بسبب ولايته المحددة سنة واحدة حينذاك، يصار إلى تجديد انتخاب رئيس المجلس أو إقصائه في تشرين الأول من كل سنة. وهو بذلك كان يقع أسير رئيس الجمهورية، الممسك على مرّ تلك السنوات بالغالبيات النيابية التي كانت تنشأ في كل مرة يجري انتخابات نيابية عامة في عهده. فكان أن ظلت ولاية رئيس المجلس قيد سيطرة رئيس الجمهورية، واقترن نفوذه بمدى تأثره برئيس الجمهورية ومجاراته. كانت تلك حال صبري حمادة وأحمد الأسعد مع بشارة الخوري، وعادل عسيران مع كميل شمعون، وحمادة وكامل الأسعد مع فؤاد شهاب وشارل حلو، والأسعد مع سليمان فرنجية، إلى أن جعل اتفاق الطائف الولاية مدة ولاية البرلمان حماية لموقع رئيس المجلس واستقراره وضماناً لاستقلاليته، وتمكين الطائفة التي يمثل من التمتع بحق النقض في معادلة الحكم.
اليوم اكتشف لرئيس المجلس امتياز مماثل بفاعليته.