عرفات حجازي
مع تعاقب زيارات كبار المسؤولين الدوليين للبنان بدءاً من الامين العام للامم المتحدة مروراً بالمستشارة الالمانية وانتهاء برئيسة البرلمان الاميركي لمعاينة الأزمة اللبنانية وتعقيداتها السياسية والدستورية وارتباطاتها بالعوامل الخارجية، كان لافتاً اتخاذ الصراع منحىً تصعيدياً على رغم أن المعطيات التي انتهت اليها القمة العربية أوحت باحتمال حصول انعكاسات ايجابية على الوضع الداخلي، خصوصاً بعد انقشاع الغيوم الثقيلة عن فضاء العلاقات السعودية ــ السورية.
لكن الصورة التي ظهّرتها الوقائع السياسية في الساعات الماضية، من خلال إقدام فريق الأكثرية على الاستنجاد بالأمم المتحدة عبر عريضة الـ 70 نائباً، سدت المسالك امام آفاق الحلول، وفتحت مرحلة جديدة من الصراع على المحكمة وحولها، وسترفع من وتيرة السجال وسخونته، في وقت تتجه فيه الولايات المتحدة والعالم الغربي الى سلوك خيارات تعطي الاولوية للتفاوض والحوار والتراجع عن سياسات الضغط والإملاء، وهو ما عكسته زيارات المسؤولين الدوليين لبيروت ودمشق، بما ينبئ بمقاربة جديدة للأزمات في المنطقة وإدارتها بمنطق مختلف يؤسس لتسويات مستقرة.
وانطلاقاً من هذه المعطيات، استغربت مصادر دبلوماسية مطّلعة مسارعة قوى الأكثرية إلى فك الارتباط بين المحكمة والحكومة، في خطوة تهدد بتعطيل الحوار، وتضع المعارضة امام واقع جديد، متجاوزة الاصول الدستورية، وناسفة كل الحلول والمبادرات، في محاولة لوضع لبنان تحت الوصاية الدولية وتحويله ساحة صراعات للمحاور الاقليمية والدولية، الامر الذي سيدخل الأزمة في طور جديد من العنف السياسي، غير أن اللافت في هذا الانقلاب السياسي الذي كان متوقعاً، هو تزامنه مع مسعى السفير السعودي عبد العزيز خوجة لإعادة إحياء جلسات الحوار بين الرئيس نبيه بري والنائب سعد الحريري، ما رآه البعض بمثابة قطع الطريق على هذا المسعى، لا سيما ان خوجة لم يكن على علم مسبق بالعريضة، وهو كان أبلغ عدداً من القياديين أن ثمة حلولاً للأزمة سيبدأ تظهيرها في وقت قريب، وأنه لا خلاف على موضوع المحكمة، وأن النقاش محصور في موضوع الحكومة ويمكن التفاهم على صيغة مقبولة من الجميع.
وفي اعتقاد مرجع سياسي أن العريضة كانت معدّة وموقعة منذ فترة، لكن فضحها في المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس بري في 20 آذار الفائت، جعل الاكثرية تتريث في الكشف عنها، معتبراً ان ما جرى هو استهداف لجهود الرياض، وأن الاميركيين والفرنسيين هم الذين شجعوا فريق الغالبية على الانخراط في لعبة تضييع الوقت، فيما كان السفيران الاميركي والفرنسي ينصحان حلفاءهما بعدم التخلي عن اوراقهما الرابحة للمعارضة في انتظار مستجدات ستقلب أوضاع المنطقة وتوازناتها، وأن ضربة اميركية لإيران باتت وشيكة وبالتالي ستنهار ارادة الممانعة في المنطقة «وتحصلون على ما تريدون».
ومع ذلك، يقلل المرجع من أهمية الخطوة التي اقدمت عليها الأكثرية، فالعريضة النيابية لن تغير شيئاً في مسار الوضع المعقد، وقد تُضمّ الى ارشيف الامم المتحدة لأن للدول الكبرى مصالحها وحساباتها التي تختلف عن المصالح الضيقة لفريق من اللبنانيين، وبالتالي فإن اخذ المحكمة الى مجلس الامن لإقرارها تحت الفصل السابع دونه عراقيل وتعقيدات ومحاذير خطرة، وهو الامر الذي جعل بان كي مون وأنجيلا ميركل يعطيان الافضلية لإقرار المحكمة عبر القنوات الدستورية والقانونية.
من هنا يستبعد المرجع السياسي أخذ البلد الى خيارات صعبة والى مزيد من التأزيم، خصوصاً أن الفرصة لم تفت للتوافق على المحكمة بعدما تأكد للجميع أن الملاحظات التي اعدّتها المعارضة على نظام المحكمة هي ملاحظات محض قانونية وهدفها تحصين المحكمة وعدم المسّ بالبنود التي من شأنها جلاء الحقيقة وتحقيق العدالة بعيداً من الثأر السياسي وتصفية الحسابات مع الخصوم.
وعلى رغم كثرة التفسيرات والاجتهادات حول ما سيؤول اليه الوضع في ضوء المعطى الجديد، فإن هناك من يؤكد أن جديداً لن يطرأ على المشهد السياسي قبل معرفة اتجاهات السياسة الاميركية بعد مؤتمر اسطنبول المقرر عقده في العاشر من هذا الشهر، وما اذا كانت واشنطن التي استعجلت تجميع الاوراق، في وارد البحث الجدي عن صيغة لخروجها من وحل العراق وفتح باب المساومة الممكنة مع ايران وسوريا. وفي الانتظار، فإن واشنطن ستعرقل كل مشاريع الحلول وتفشل نتائج تسوية العلاقات السعودية ــ السورية التي ترى أنها تمّت على حسابها.