عمشيت ـــ جوانّا عازار
النورج، المطلع، المحدلة، الجاروشة، صندوق الفرجة، طاولة لفّ الدخان، الفونوغراف، مكوى الطرابيش، المشحرة. كلمات اعتدنا على قراءتها في بعض الكتب اللّبنانيّة وعلى رؤيتها في بعض القرى اللبنانيّة، إلا أنّها توجد اليوم في مجسّمات صغيرة وغيرها الكثير من أدوات المهن القديمة والحرف في متحف للمجسّمات الحرفيّة تركه «شيخ المعلّمين» طانيوس زغيب الذي رحل عام 1999. فبعد أن قرأ في كتاب لأنيس فريحة عن زوال القرية اللّبنانيّة والعادات القديمة وعن الحاجة إلى من يعمل على المحافظة على التراث اللّبناني، قرر المعلّم طانيوس زغيب أن يجسّد معظم المهن والحرف القديمة في مجسّمات صغيرة، خفيفة الوزن، لا تتجاوز معظمها حجم الإصبع الواحدة. صنع المعلّم طانيوس القطع من موادها الأصليّة، إذ كان ينشر الخشب على يده مستخدماً النحاس والحديد في الطريقة نفسها التي كانت تصنّع فيها في الماضي وحسب الأصول المعتمدة قديماً. وكانت النتيجة أنّه استطاع في مدّة لا تتجاوز ثماني سنوات أن ينفّذ نحو 500 قطعة اختزلت تراثاً أضحى غريباً عن حاضرنا.
طانيوس زغيب من بلدة عمشيت بدأ في عمر 77 سنة العمل على تنفيذ المجسّمات، وتقول عنه ابنته «بربارة» إنّه كان رجلاً مثقّفاً يفكّر في طريقة علميّة ومنهجيّة، وهذا ما جعله يعمل وفق برنامج علمي واضح، فبدأ من الصفر في تنفيذ سرير الطفل الهزّاز، ليكبر معه شيئاً فشيئاً منفّذاً الألعاب القديمة من اليويو، البلبل، الغلّة... والحقيبة المدرسيّة ومحتوياتها كالمحبرة والريشة وغيرها... لينتقل بعدها إلى المهن القديمة وأقربها إليه الزراعة، فصنع أدوات الفلاحة والزراعة في أدقّ تفاصيلها ومنها مقصّ تشحيل الأشجار، المنسرة، (الزوّ) لقصّ صوف الغنم، النورج، المطلع، المحدلة، بارودة الخلد، إضافة إلى مطبخ الفلاح التقليدي من الصاج، الجاروشة، مطحنة البنّ، قفص الطعام، جرن الكبّة، صندوق الطحين، وصولاً إلى أدوات الطبخ والأواني النحاسيّة والفخّاريّات.
نفّذ المعلّم أيضاً عدّة الحدّاد، النجّار، السنكري، السكّاف، المنجّد، البحّار، الفاخوري، المشحرجي، البويجي، البنّاء، البيطري، البويجي، وغيرهم. وجسّد أيضاً على شكل مجسّمات صغيرة أدوات كالمنكلي لهرم الدخان، قفص الحجل، طلميّة الماء، الهاون من النحاس، طاولة لفّ الدخان، ميزان الذهب مع عيارات الذهب، ماكينة صنع البوظة، معصرة الزيتون، صندوق العروس، الفونوغراف، مكوي الطرابيش، مجلخ السكاكين المتجوّل، صندوق الفرجة. وما يلفت النظر طاولة الزهر الصغيرة جدّاً التي نفّذها المعلّم، والنرجيلة الصغيرة التي تحمل على الكفّ والتي تستعمل كالكبيرة، إذ يوضع لها التبغ والماء، وتسمع منها «الكركرة». وجميع المجسّمات التي نفّذها المعلّم تعمل كالأصليّة رغم صغر حجمها، فالميكانيكي الأول في بلاد جبيل وأوّل من أضاء منزله بالكهرباء في عمشيت بعد توليدها من الهواء عام 1943، كان الأوّل في تنفيذ مثل هذا العمل وحده بدون مساعدة من أحد، وخاصّة أنّ القطع صغيرة والعمل فيها شديد الدقّة.
كان حلم المعلّم طانيوس أن يكرّم في حياته، وقد كان له ما أراد، إذ كرّمته وزارة الثقافة عام 1998، كما أنتجت عنه فيلماً وثائقيّاً مدّته 20 دقيقة لإعطائه للسفارات ليحظى المغتربون بفرصة التعرّف إليه. كذلك كرّمه الانتشار اللبناني ونادي وبلديّة عمشيت، وكانت فرحة المعلّم كبيرة، إذ شارك في معارض لبنانيّة عدّة من دون أي مقابل في السوق القديم في جبيل، في نادي عمشيت، في سوق الذوق القديم، درج الفنّ في الجميزة، مهرجان الحمرا، معرض طرابلس الدولي، دار سيّدة الجبل إهدن وغيرها... وكان هدفه الأساسي تثقيف الناس وتعريفهم بالتاريخ والتراث، هو الذي شعر بأنّه حقّق حلمه تاركاً أعمالاً قيّمة أعطته طاقة عظيمة ليكمل المسيرة، إلا أنّ دماغه خذله فانفجر وتوفّي المعلّم وفي رصيده نحو 500 قطعة في عهدة أولاده الخمسة. فهم يحفظون ما تركه والدهم بأمانة ويعتنون بها في ما خصّ صيانة النحاس، تنظيف الحديد والعناية في الخشب. كما أنّ «بربر» يحاول أن يتمّم بعض القطع التي لم يفرغ منها والده، فيما يهتمّ «يوسف» بالأرشيف وتوثيق هذا التراث القديم.