ملاك مكي
للشهر الثالث على التوالي يتحوّل مقهى
city cafć في بيروت إلى مقهى علمي محتضناً محاضرات علمية مختلفة بعيداً عن صفوف الجامعات أو المختبرات. هذا النشاط الذي تنظّمه الأكاديمية الملكية للعلوم Rasit، يناقش هذا المساء وضع البيئة في لبنان والتحديات المستقبلية على أكثر من صعيد


أن تجلس في مقهى، تتحدث فيه مع الآخر عن يومياتك ومشاكلك الصغيرة، عن أغنياتك، وألوانك المفضلة، عن أفكارك السياسية وذوقك الفني، شيء عادي ورائج. لكن أن تجلس لتحضر ندوة علمية تتعرف فيها إلى مسارات البحث العلمي وأهميتها، أن تكتشف ما يجري في المختبرات الحديثة والغرف الاشعاعية فهو بالتأكيد أمر جديد ومختلف. لكنه، رغم ذلك، موجود حالياً في مقهى «سيتي كافيه» الذي يحتضن هذا المساء محاضرة علمية تتناول وضع البيئة في لبنان، يحاضر فيها رئيس قسم البيئة في مجموعة «أرض» ريكاردو خوري.
وكان المقهى قد استضاف خلال الشهرين الفائتين محاضرتين علميتين باللغة العربية، الأولى لعميد كلية الطب ونائب رئيس الجامعة الاميركية للشؤون الطبية الدكتور نديم قرطاس بعنوان «الخيارات الحرجة التي يواجهها الطب»، والثانية للأمينة العامة للجنة الوطنية لليونيسكو الدكتورة سلوى السنيورة بعاصيري بعنوان «العلوم وتأثيرها في المجتمع».
تهدف هذه الندوات الى «شعبنة» العلوم (Popularisation of science)، كسر الحاجز بين العالم والمجتمع ومحاولة إقناع الناس بأهمية البحث العلمي وقيمته في تطوير أساليب العيش. هذا ما توضحه لنا الطبيبة والباحثة في العلوم الوراثية البشرية والسرطانية الأميرة نسرين بنت الشريف محمد ابن الملك الفيصل الاول الهاشمي، التي ولدت معها فكرة المقهى العلمي (Sciene cafe) على وقع أغنية «عوّدت عيني على رؤياك» مثلما تقول، ليكون بذلك المقهى الأول في العالم العربي وربما في العالم، الذي تتسلل فيه العلوم خارج أسوار الجامعات والمختبرات.
الباحثة نسرين الهاشمي، هي أيضاً الأمينة التنفيذية للأكاديمية الملكية للعلوم Rasit، وقد قدمت إلى لبنان من أجل تأسيس فرع للأكاديمية في بيروت كان هذا المقهى أولى نشاطاته بهدف: «المساهمة في إخراج العلوم من أسوار الجامعات الى العامة، باختلاف فئاتهم ومستوياتهم وأعمارهم. نحاول أن نوضح لهم قيمة البحث العلمي الذي ربما اعتبره البعض مضيعة للوقت والبعض الآخر محصوراً بحاملي جوائز نوبل. من خلال المقهى العلمي يمكن البحث العلمي أن يدخل في تفاصيل حياتنا اليومية، في المأكل والمشرب، في الصحة ومقاومة الأمراض، في السيارة والهاتف...».
تذهب الهاشمي أبعد من ذلك في تحديد دور المقهى، إذ يمكنه الإجابة على عدة تحديات، منها «حالات الإحباط التي يعيشها المواطن العربي التي لا تسمح له بتقبل أي مشروع أو فكرة جديدة وتجعل المثل الأعلى له محصوراً بـ «النجم» الشاب أو «الفنانة الاستعراضية».
أما التحدي الثاني فيطال العلماء وخوفهم من مواجهة المجتمع: «يجب أن يتعرف الباحث العلمي إلى المجتمع ومشاكله ويتواصل معه متخلياً عن «برستيج» اجتماعي تمسك به البعض فابتعد عن العامة وعن الباحثين الآخرين». وتنتقد عدداً من الباحثين الذين «طغت روح المنافسة فيما بينهم على روح المشاركة العلمية. يجب أن يتذكروا أن العالِم البعيد عن الآخر وعن مجتمعه لا يمكنه أن يعرف كيفية تطوير أبحاثه أو استخدامها بشكل مفيد ومنتج».
ويكمن التحدي الثالث في رفض ما يشاع عن العلم من انه جاف وغير مثير «هذه فكرة ساهم في ترسيخها النظام التعليمي الذي لا يجد في طالب العلوم سوى مدرّس، والصحافة العلمية التي لم تنجح في صبغ العلوم بجماليات تشدّ القارئ غير المختص والمؤسسات الإعلامية التي نادراً ما تستضيف باحثين علميين أو تطرح في برامجها مسارات أبحاثهم العلمية وقيمتها».
لا تتوقف التحديّات عند هذا الحدّ، هي تصل حتى الى اختيار بيروت مكاناً لإطلاق المقهى العلمي الأول في العالم العربي «هذه المدينة التي تمثّل قيمة ثقافية وفكرية طبعت الوطن العربي، وهذا ما يجب أن نكرّسه رفضاً لكل محاولات جعل هذه المدينة العريقة بفكرها وثقافتها مجرد كازينو أو ملهى ليلي». أمّا اسباب اختيار «سيتي كافيه» فعديدة أهمها «الطابع الثقافي للمقهى وعدم وجود أي صبغة سياسية له، وتكمن أهميته أيضاً في كونه جسر تواصل ونقطة التقاء بين جيلين».
وبالفعل، يؤلف جيل الشباب نسبة كبيرة من الحضور الشهري، يتداعون الى المقهى الذي يتحول سريعاً الى صف علمي، ينصت فيه الجميع إلى محاضرة مختلفة عن نظام المحاضرات الكلاسيكي. هنا يملك المرء حرية الحضور او الغياب، هو ليس مجبراً على الحضور، لن يمتحن في نهاية الفصل أو العام، ولن يتنافس مع زملائه على الحصول على المرتبة الأولى.
الصف الذي يمثّل لأحمد رمضان (طالب هندسة ميكانيكية) «إطاراً محدوداً بالشؤون التخصصية البحتة دون التطرق الى مواضيع علمية عامة تلامس حياتنا اليومية كالاحتباس الحراري، الأمراض المعدية المزمنة»، هي مواضيع يطرحها بشكل أفضل واجمل المقهى العلمي، الذي «وإن رحّب به البعض فهو لا يزال يواجه نفوراً من البعض الآخر الذي لا يقبل الأفكار الجديدة خصوصاً إذا كانت غير تجارية ولا توفر مردوداً مادياً في بلد تجاري استهلاكي». للعلم قصة، قد لا يعرف كثيرون اختراعها او تأليفها، لكن البعض ادرك السر، السر في أن القصة تبدأ بالمعاناة، معاناة الانسان بالسفر، بالمرض وبالتواصل. من الألم تبدأ القصة، وفي القصة يبدأ النجاح والتقدم، تقدّم في الابحاث العلمية وشعبنة العلوم. وهذا ما يخلقه المقهى العلمي. فسحة جديدة لطرح أسئلة عميقة، عن الجسد والضوء والحيوان، عن القضاء والقمر والكوكب الأحمر، عمّا يهمنا، يؤثر علينا وما ينتظرنا، فرصة ليبقى المقهى مكاناً لمشاركة الافكار والقضايا لا «للشيشة». فرصة لتلاقي الباحث العلمي بالمحامي، الفنان والروائي. لكن متى وكيف يصبح العلم في متناول الجميع، الجميع بمن فيهم النجار، سائق التاكسي، بائع الثياب والاسكافي.




حاجة للموسيقى والمحاماة

يتابع هذه الندوات عدد من الفنانين والاعلاميين والحقوقيين... من بينهم التقينا المؤلّفة الموسيقية ومغنية الأوبرا هبة قوّاص التي توضح أنها تنتظر بشغف موعد هذه الندوات «لأن العلم جزء من ثقافة الانسان وفكره، لكنها ثقافة مهدّدة بسياسات تربوية وإعلامية لا تشبع رغبة الناس بالمعرفة».
تنتقد القواص بشكل رئيسي تعامل الإعلام السلبي مع المواضيع ذات الطابع العلمي، علماً بأن اللبنانيين يرغبون في الاطلاع والدليل «وجود قناة Discovery channel في معظم البيوت اللبنانية، وهو ما يؤكد رغبة الناس في معرفة أسرار الكون والحياة. لكن الوسائل الاعلامية العربية لا تؤدي دورها في نشر هذه العلوم وإطلاع المشاهد على آخر الاكتشافات والابحاث العلمية بطريقة جذابة وممتعة».
وتلفت إلى «فشل النظام التعليمي في إيجاد بنية ثقافية فكرية لدى الطالب تجعله يهتم بما هو أبعد من الواجبات المدرسية». وتوضح: «في الغرب، تنظم المدارس زيارات خاصة للطلاب إلى المتاحف والمختبرات، ومسارح الأوبرا، الأمر الذي ينمّي حب الاطلاع ومتعة تذوق الفنون والعلوم». وترفض قوّاص السؤال عن الرابط بين الموسيقى والعلم لأن «الموسيقى علم وهناك عدد كبير من الأطباء الموسيقيين». تقول. وتستطرد: «علمياً، أصغر الجزئيات الفيزيائية (quatum) في علم النانوتكنولوجي ذبذبات وطنين، والموسيقى طنين. واليوم، يبحث العلم في موسيقى الخلايا والجينوم البشري».
الرأي نفسه يتشاطره المحامي رفيق الحاج مع قوّاص، خصوصاً أن هناك الكثير مما يجمع بين المحاماة والعلوم: «الفحص الجيني يمثّل دليلاً اساسياً في بعض القضايا الحقوقية». الحاج يحرص على متابعة محاضرات المقهى العلمي لأنها «تسمح لي بالاطلاع على أهم المعلومات بطريقة سهلة وسريعة، وهناك قضايا حقوقية عديدة تتعلق بشؤون طبية، حسابية وزراعية».
أما القضية الاكبر التي تجمع بين مهنته والعلوم فتبقى بالنسبة إليه «المساهمة في تطوير المجتمع الانساني ورقيه بوجه الضغوط الاعلامية الاستهلاكية التي لا تجد في الفرد سوى رقم للاستهلاك وتقيس إمكاناته الفكرية بكمية مشترياته وتجديد مقتنياته».




العلم أهم من السياسة؟


«العلم علينا والقهوة عليكم» تقول الباحثة نسرين الهاشمي ضاحكة رداً على سؤال عن كلفة هذه الندوات. «نحن في الأكاديمية الملكية للعلوم (rasit) نتولى دفع التكاليف التقنية، لكن الحضور يدفعون كلفة ما يطلبونه» مشيرة إلى استثناء حاصل هذا المساء فقط حيث ستكون «الضيافة مجانية للحضور بمناسبة المولد النبوي الشريف وعيد الفصح». هكذا لا يكون مشروع «المقهى العلمي» خاسراً تجارياً كما قد يعتقد الكثيرون. هذا على الأقلّ ما يؤكده لنا صاحب «سيتي كافيه» منح دبغي الذي لم يتردد في الموافقة على إقامة هذا النشاط في مقهاه: «بالعكس، المشروع مفيد جداً، يتناسب مع طابع المقهى الفكري ولا يتضارب مع مصالحي التجارية». من جهة أخرى، يلفت مصطفى خليل، المسؤول عن النادلين، الى تغيير طرأ على نوعية الحديث على طاولات المقهى التي قد تكون ملّت النقاشات السياسية والحزبية، فبدأ يسمع حديثاً من نوع آخر «يتناول قواعد علمية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير في ليلة وضحاها كالمواقف السياسية في بلدنا» ما أقنعه بأن «العلم أهم من السياسة، لأن قواعده لا تتغير وهو يمسّ جسدنا وصحتنا».




«البيئة في لبنان» هو عنوان محاضرة هذا المساء وتبدأ عند الساعة الخامسة والنصف