نقولا ناصيف
ليست بكركي في الغالب أول البادئين بفتح معركة انتخابات رئاسة الجمهورية، لكنها أول مَن يرسم السقوف التي تحدّد ضوابط إجراء الاستحقاق. ولأن كلاًّ من البطاركة الموارنة المتعاقبين منذ الاستقلال واكب أكثر من رئيس انتخب أو استمر في ظلّه، كان البطاركة باستمرار هم الأكثر التصاقاً بالخلافات مع الرؤساء، بعدما كانوا الأكثر توجساً من معظمهم عند انتخابهم.
وشأن البطريرك مار بولس بطرس المعوشي الذي رافق عهود أربعة رؤساء، اثنان انتخبا في ظروف استثنائية هما كميل شمعون وفؤاد شهاب، والآخران شارل حلو وسليمان فرنجية في ظروف عادية، رافق البطريرك مار نصر الله بطرس صفير أربعة رؤساء أيضاً، اثنان انتخبا في ظروف استثنائية هما الرئيسان رينه معوض والياس الهراوي، وثالث في ظروف عادية هو الرئيس إميل لحود، ورابع كان قد واكب عهده هو الرئيس أمين الجميل. ولعل صفير يحمل، أكثر من أسلافه، عصارة تجربة بكركي مع الرؤساء اللبنانيين. شهد مع الهراوي ولحود، ورفضه التمديد لهما، ما شهده قبله البطريرك مار أنطون بطرس عريضة عام 1952 عند انتخاب شمعون «فتى العروبة الأغر» رئيساً، فأرسل المونسنيور إغناطيوس كيروز يقول للرئيس المنتخب: «البطريرك يوصيك بلبنان». وشهد صفير ما شهده قبله المعوشي وهو يقبل على مضض تسوية أميركية ـــ مصرية بانتخاب شهاب عام 1964 رئيساً. حداه ذلك على القول يوماً لأحد أصدقاء شهاب الذي زار بكركي وسيطاً: «قل للجالس تحت (شهاب في جونية) لا شيء يدوم»، ثم رفض التجديد لشهاب قبل أن يرفضه الرئيس نفسه. وشهد صفير ما شهده مباشرة قبله البطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش عام 1976 وهو يؤيد المطالبة باستقالة الرئيس سليمان فرنجية استجابة لمطالبة الأكثرية النيابية له بذلك. ثم شهد عامذاك خلافاً على النصاب القانوني لانتخاب الرئيس الياس سركيس، وعام 1982 خلافاً مماثلاً في انتخاب الرئيس بشير الجميل. كانت خشية خريش آنذاك من أن يتسبب انتخاب رئيس بانقسام وطني حاد بسبب خوض كل من سركيس وبشير معركته الانتخابية على أنه فريق غالب في مواجهة آخر مغلوب. وثمة تقليد درج عليه البطاركة هو أنهم كانوا يسلّمون بالانتخاب، لكن قلوبهم كانت دائماً مع المرشح الذي لا يقف وراءه عامل خارجي: حبّذ عريضة حميد فرنجية لا شمعون، والمعوشي الرئيس بشارة الخوري أو جواد بولس لا شهاب، وخريش ريمون إده لا سركيس، ثم اده لا بشير.
وقد يكون إجراء الاستحقاق انتخاباً وعدم الترحيب برئيس يدعمه الخارج بما يقتضي تعديلاً دستورياً لإيصاله إلى المنصب، هما في صلب ما انطوى عليه البيان الشهري الأخير لمجلس الأساقفة الموارنة، الأربعاء الفائت. لمرة جديدة حددت الكنيسة المارونية في هذا البيان السقف التقليدي القائم على ركيزتين:
أولاهما إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها الدستوري، والحؤول دون نشوب أي سبب لتعطيلها سواء بدعوى الخلاف على النصاب القانوني للجلسة أو الخلاف على اسم الرئيس الجديد. ويعكس هذا الموقف، ضمناً، إجابتين عن المشكلتين المحيطتين من الآن بهذا الاستحقاق، وهما النصاب القانوني والتوافق. وبدا أن بكركي أرادت سلفاً عدم الدخول في سجال دستوري حيال نصاب الجلسة بأن رأت أن على النواب جميعاً المشاركة في جلسة الانتخاب في معزل عن التوافق على اسم الرئيس الجديد. أمر كهذا يشير إلى أنها، إذ تدعم التوافق المبكر على رئيس للجمهورية ـــ إذا حصل ـــ لا تراه شرطاً ملازماً لانعقاد الجلسة أو تأمين النصاب القانوني لها. بذلك تحضّ على الانتخاب إذا تعذّر التوافق، وتعبّر في الوقت نفسه عن ميل إلى تبنّي وجهة نظر قوى 14 آذار التي هي أحوج إلى انعقاد الجلسة بنصاب قانوني مكتمل، منها إلى مَن يعضدها في انتخاب الرئيس الجديد نظراً إلى سيطرة هذه القوى على الأكثرية المطلقة في مجلس النواب التي تمكّنها من انتخاب مرشحها من الدورة الثانية للاقتراع.
وفي واقع الأمر، يلتقي موقف بكركي، في الظاهر، مع ما ردّده رئيس المجلس نبيه بري مراراً في الأسبوعين المنصرمين، وهو أنه سيستخدم صلاحيته المنصوص عليها في المادة 73 بتوجيه الدعوة إلى المجلس لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، واستعداده لتحديد أكثر من موعد لجلسة الانتخاب. إلا أن بكركي وبري يفترقان عند مسألة محورية ودقيقة، هي أن لكل منهما وجهة نظر مختلفة حيال النصاب القانوني للجلسة. إذ فيما تقارب بكركي النصاب على أساس أنه عددي لأن الهدف هو انتخاب الرئيس في حضور النواب جميعاً، في المهلة الدستورية، يرى بري النصاب سياسياً لكون الأمر مرتبطاً بدوره رئيساً للمجلس، يقتضي أن يؤمن الظروف الكفيلة تحقيق حدّ أدنى من التوافق على إجراء الاستحقاق. والمقصود بذلك أن تفاهماً داخلياً على إمرار الاستحقاق في الظروف الاستثنائية يوجب أن يسبقه اتفاق سياسي على الرئيس الجديد، وعندئذ لا يعدو النصاب كونه حساباً عددياً.
ومرد لغز عبارة بري في أنه مستعد لتحديد أكثر من موعد لجلسة الانتخاب، بعد أن يكون قد وجه الدعوة مرة واحدة، إلى توقعه عدم اكتمال النصاب القانوني للجلسة بسبب تعذّر التوافق.
تلك كانت الركيزة الأولى. أما الثانية فهي عدم إحداث أي خرق جديد للدستور. وتبدو هذه الإشارة لافتة في توقيتها، إذ تعيد تأكيد موقف تاريخي للبطريركية المارونية، وهو تأييدها إجراء الانتخابات الرئاسية تبعاً للآلية المنصوص عليها في المادة 49 من الدستور، على نحو لا يستعيد سابقة تعديلها لأي سبب كان. ولعلّ بلاغة هذه الإشارة ـــ وهي لا تعني في أي حال موضوع احتمال تمديد ثانٍ للرئيس إميل لحود ـــ أنها تعبّر عن عدم حماسة بكركي لوصول مَن تحول الأحكام الحالية للمادة 49 دون انتخابهم لرئاسة الجمهورية. وقد يكون المقصود بذلك تعديل الدستور لإتاحة فرصة انتخاب أحد مرشحين بارزين للرئاسة هما قائد الجيش العماد ميشال سليمان وحاكم مصرف لبنان الدكتور رياض سلامة. ومع أن أياً من الرجلين لم يقل صراحة إنه يُعدّ نفسه للترشّح، فإن موقف بكركي حيال هذه المسألة يبدو مبدئياً وقاطعاً، وهو تمسكها باحترام المادة 49 كما هي، ووضع الاستحقاق الرئاسي في يد فريق سياسي هو قوى 14 آذار، التي، على اختلاف اتجاهاتها، تعلن أنها تعمل تحت مظلة البطريرك.