أنطوان سعد
كما في التعاطي مع الدستور وتفسيره، كذلك في ما خص موقف بكركي ودورها كمرجعية. فإن طرفي النزاع السياسي الحاد الدائر حالياً في لبنان لا يحتكمان إلى الدستور ولا إلى البطريركية المارونية مرجعيتين لأخذ الرأي والمشورة، على رغم ادعاء بعض أركانهما ذلك، بل يبحث كل منهما عما يدعم موقفه في النص الدستوري أو في المواقف الصادرة عن الكنيسة المارونية، ويتغاضى عما لا يتوافق مع مصلحته.
والجدير ذكره أن بكركي اليوم هي المرجعية الروحية والوطنية الوحيدة في لبنان التي تقف على مسافة واحدة من الفريقين المتخاصمين. وقد أكد بيان مجلس المطارنة الموارنة أول من أمس، مرة جديدة، تمسك الكنيسة المارونية بحياديتها خصوصاً عبر اللغة والتعابير المنتقاة بعناية بالغة تعكس حرص البطريرك نصر الله بطرس صفير على أن تبقى بكركي جسر تواصل بين اللبنانيين من خلال إثارة الهواجس والمطالب المحقة لدى كل من الطرفين المتنازعين.
وفي هذا الإطار، أثار البيان تساؤلات كثيرة وبعض الاستياء لدى أوساط المعارضة، فيما لم تكن دوائر الموالاة مرتاحة إلى الإشارة التي تضمنها البيان إلى وجوب عدم «الانقلاب» على المجلس «وإطاحة القواعد التي يقوم عليها وتوزيع الصلاحيات الممنوحة للقيمين عليه»، في إشارة واضحة إلى ضرورة عدم تجاوز رئاسة المجلس النيابي. أما المعارضة فقد أزعجها خصوصاً الموقف المباشر من قضية تعطيل جلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية على رغم أن الموقف البطريركي ينطوي ضمناً على تحبيذ تأمين نصاب الثلثين وحصول توافق على شخص الرئيس العتيد. فقد جاء في البيان: «نرى أن امتناع أي قوة سياسية أو تكتل أو حزب عن تأمين نصاب الجلسة المخصصة لانتخاب رئيس للجمهورية يمثل التفافاً على أحكام الدستور وتعطيلاً للأصول الديموقراطية».
بعد قراءة متأنية لبيان المطارنة الموارنة، يمكن استخلاص بعض الاستنتاجات التي يمكن توضيحها أكثر في ضوء الأحداث الجارية وخبرة بكركي مع المسؤولين السياسيين:
1ـــ القلق الأكبر هو من تجدد تجربة الفراغ الرئاسي الذي جرّ الويلات على اللبنانيين والمسيحيين عندما حصل سنة 1988. فالكنيسة المارونية الشديدة الصلة بالأوساط الشعبية المسيحية تعرف انعكاس مناخات عدم الاستقرار السياسي والأمني على الرأي العام لجهة رفع وتيرة هجرة الشباب والعائلات جراء انسداد الأفق والخوف على المستقبل في منطقة متجهة نحو مزيد من التطرف الديني. ولا تزال نتائج حرب تموز الأخيرة ماثلة أمام سيد بكركي، فعلى رغم أن المناطق ذات الأغلبية المسيحية لم تعرف التدمير الذي لحق بالمناطق الأخرى، فإن موجة الهجرة المسيحية استؤنفت منها بعدما كان الانسحاب السوري قد شكل دافعاً لعودة المهاجرين.
2ـــ انتخاب رئيس للجمهورية في جلسة يتأمن فيها نصاب الثلثين عامل استقرار للمؤسسات الدستورية ودافع إيجابي لتطوير الحياة الديموقراطية في لبنان. وإذا تم ذلك بالتوافق بين مختلف الكتل النيابية فذلك يكون أفضل. ولطالما كان الاستقرار عاملاً أساسياً في نمو المسيحيين وازدهار أوضاعهم الثقافية والاقتصادية.
3ـــ انتخاب رئيس جديد سيعيد للموارنة دورهم في قلب المعادلة اللبنانية بعد تهميش رئاسة الجمهورية من الموالاة والمعارضة على السواء، في السنتين الأخيرتين. وآخر دليل على ذلك قبول رموز من المعارضة بالاجتماع مع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ورئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي اللذين قاطعا الرئيس إميل لحود بسبب تحالفه مع «حزب الله» وحركة «أمل»، فيما تمتنع رموز المعارضة نفسها، وفي مقدمها الرئيس نبيه بري والأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله، عن زيارة القصر الجمهوري. أما الفراغ الرئاسي وقيام حكومتين فسيطيلان فترة ضياع الوزن الماروني في المعادلة اللبنانية. وليس الكلام على تأليف حكومة انتقالية برئاسة ماروني في نهاية عهد الرئيس لحود ما يطمئن البطريرك صفير على الدور المستقبلي للموارنة، بل يمثّل مصدر قلق كبير له لأن ذلك يعني وقوع الحرب في أقل تقدير.
4ـــ على «حزب الله» وحركة «أمل» قبول نتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة والتصرف بموجبها، وإن شعرا بالخيانة من جانب تيار «المستقبل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي». إذ إن تصحيح خطأ التحالف الرباعي واعوجاج الحياة الديموقراطية لا يكون بتدمير الممارسة الديموقراطية، بل بتصحيح قانون الانتخاب وانتظار انتخابات تشريعية جديدة أو العمل سلمياً من أجل انتخابات مبكرة. وليكن ذلك درساً لجميع الطوائف اللبنانية بعدم جواز القبول بتهميش أي فئة لبنانية لأن الانعكاسات السلبية ستطال الجميع عاجلاً أم آجلاً.