strong>بيسان طي
  • فارّان من العراق إلى لبنان يرويان يوميات مدينة لم يعودا يعرفانها

    كيف استباح الرعب بغداد وجعلها ــ في غفلة من المجتمع الدولي وشرعيته ــ وليمة عارية (كما وصفها الروائي العراقي علي بدر) ينهشها الاحتلال والاقتتال الطائفي؟ وكيف نحكي اليوم عن عاصمة العراق؟ في كلام الفارين منها تغيب كل مكوّناتها التاريخية والاجتماعية والثقافية، لتحل مكانها مفردات الموت، وتصير «مدينة السّنَّة أو الشيعة» فقط!

    ليلة سقوط بغداد قبل أربعة أعوام (9 نيسان 2003) هي نقطة التقاطع بين تاريخين غارقين في البؤس: مرحلة الحصار الدولي، ومن ثم الاحتلال الأميركي والاقتتال الأهلي والطائفي الذي تصاحبه شائعات وأحاديث وتوصيفات مستعارة من قاموس الحرب الأهلية اللبنانية، كالذبح “على الهوية”، أي حسب الانتماء الطائفي، وتعاطي مقاتلين لحبوب الهلوسة، وهم يسمونها “الورد”، أو أن مقاتلين رغم خلفيتهم الدينية قد يصلون إلى “المعارك” وهم سكارى.
    إنها المدينة نفسها التي وُلد فيها الشعر الحديث قبل ستين عاماً، تُنتج الجماعات أو الميليشيات المتقاتلة فيها اليوم أفكاراً جهنمية في الذبح والتنكيل والتعذيب، بحيث يصعب تصديق ما يرويه الفارّون من العراق إلى لبنان عن يوميّاتها. هؤلاء، رغم كرههم للاحتلال الأميركي ورفضهم له، يغرقون في المنطق الطائفي، يحكون شيئاً عن تنكيل جيش الاحتلال بهم، وأشياء عن ممارسات أحزاب وجماعات طائفية. إنها باختصار الحرب الأهلية بصيغتها العراقية.
    في 15ــــــ9ــــــ2006 وصلت علياء لولوة إلى برّ الأمان، في ذلك اليوم عبرت الحدود العراقية ووطئت أرض الشام، وانتهت بالنسبة إليها مرحلة بدأت “ليلة اغتيال بغداد”. هي فتاة في العقد الثاني تحمل شهادة في الأدب العربي وعملت في المونتاج التلفزيوني. تحب الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وتتألم حين يجري الحديث عن “ديكتاتوريته”، سنية وأمها شيعية لبنانية، هذه “هويتها” في عراق اليوم.
    عندما عبرت الحدود إلى سوريا لم تكن تحمل إلاّ جواز سفر مزوّراً وهويتها وصورة لصدّام وأنبوباً صغيراً فيه تراب من بغداد. تضع الأخير قربها في بيت خالتها في حي السلّم، تتأمله فتدمع عيناها. تحكي أولاً عن صعوبات الحياة في لبنان. فهي تبحث عن عمل منذ شهور ولا تجده، ثم تتذكر ليالي الخوف، ونهارات كانت تمضيها في الهروب من مكان إلى آخر، هروب من انفجار وقع أو قد يقع. تتنهد وتقول إنها لا تنسى، وإنها لو لم تجاور الموت مرّات لما تركت بيتها في منطقة الدورة في بغداد، ذلك البيت الذي ولدت وترعرعت فيه. لكن الخطر المحدق لم يترك لعائلتها خياراً.
    تحكي علياء الكثير عن جماعات هاجمت حيّهم، وتذكر “جيش المهدي” تكراراً، هي تكرهه لأن أعضاءه قاتلوا أبناء منطقتها “وقتلوا وشوّهوا كثيرين منهم”. قصة فرارها مع شقيقها وزوجته من المنزل طويلة ومعقدة، قالت إن أعضاء الميليشيات هاجموا الحيّ وحاولوا قتل مراهق اعتقدوا أنه رمى مجموعتهم بالحجارة. هرب شقيقها وزوجته الحامل إلى مستشفى اليرموك وبقيت هي في المنزل بعدما قُطعت عنه الكهرباء، وبعدما خضعت للتحقيق مرات وبندقيات المقاتلين مصوّبة نحو رأسهاالجواسيس مزروعون في كلّ الأحياء، لمّا فقد أبناء العراق الثقة بالوطن صار بعضهم جواسيس على بعضهم الآخر. كثرت لوائح المطلوبين، وتمترست أحياء وراء الدرع الطائفي لتحارب جماعات من طائفة أخرى. قرب الدورة حيّ آخر ذو أغلبية سنية، وعند مدخله جامع، وهو بالمعيار العراقي الجديد “آمن” للسنّة. إليه هربت عليا مع أخيها وزوجته بمساعدة قريب يعمل في وزارة الداخلية.
    عندما وصلت إلى بيت عمتها بدأت الاتصالات بواحد من أشهر المزوّرين. طلب منها 600 دولار لتزوير جوازَي سفر، وانتقلت العائلة في تاكسي من بغداد إلى الأنبار مقابل 80 دولاراً. عند الحدود تنبّه المفتشون إلى أن جواز سفر علياء مزوّر، فتوجهت إلى “خيمة التزوير” التي تبعد أمتاراً عن الحدود، ودفعت 200 دولار مقابل جواز آخر، وانتقلت إلى “الضفة” الأخرى في سوريا. هناك تنفست الصعداء غير مصدقة أنها نجت من النيران. حين تستعيد علياء“يومياتها” في بغداد تشعر بأنها كالحلم أو الكذبة، تلفت إلى أن الكذب كان يتغلغل في حياتنا، تتذكر أنها كانت تعرف أن “سعر” المقابلة المزورة 20 دولاراً، وتقول: “بحكم عملي في المونتاج التلفزيوني، شاهدت عشرات، بل مئات المتطوعين للمقابلات المزيفة، يُلقنون الإجابة، يتلونها، ثم يتقاضون المال، كل الأطراف السياسية اعتمدت هذا الأسلوب”.
    بغداد ليست بعيدة عن علياء، هي تذكر الروايات التي يتناقلها السكان في ليالي السمر على وقع الرصاص والقنابل، يقولون إن مخطوفين أُعيدوا إلى ذويهم في طناجر مع خضراوات، يتحدثون عن رؤوس مقطوعة. تضيع علياء في التصنيفات، تحاول “أن تميّز”، أن تتذكر أن قيادة جيش المهدي مقاومة ضد الاحتلال الأميركي. لكن قوانين الزمن العبثي سائدة بلا منازع في العراق، لذا فإن قائمين بحملات تطهير “طائفي” يدّعون الانضواء في جماعات مقاومة للاحتلال، وينكّلون بأبناء وطنهم. تضيع بها البوصلة قبل أن ترشدها مجدداً إلى علّة كل العلل، أي الاحتلال الأميركي. تقول إن الجنود الأميركيين يقتحمون البيوت ويفتشونها، وفي مجموعاتهم أعداد كبيرة من المرتزقة، وبعض هؤلاء يتحدثون اللغة العربية. كلّ إنسان متهم في نظرهم، الطفل والعجوز والمرأة والشاب، متهم بأنه “ضدهم” وعليه أن يحاكم بهذه التهمة. تتحدث علياء عن قريب لها يبلغ من العمر 12 عاماً مرّ بقرب حاجز للاحتلال الأميركي فأطلق الجنود عليه الرصاص وأردوه قتيلاً، إذ خافوا مما كان يحمله، وبعدما فتشوه تبيّن أنه كان يحمل خبزاً.
    بغداد التي تحفظ علياء شوارعها وحاراتها وبيوتها والساحات، بدت غريبة جداً لأمين الموسوي. الشاب الذي يعمل بائع خضار متنقل في بيروت، غادر العراق قبل سبعة أعوام، وقرر أن يعود إليه في صيف 2006. غلبه الحنين إلى أهله، لم تُخِفه الأخبار والصور التي تبثها شاشات التلفزة،حزم حقيبته، وسافر إلى بغداد. لكنه وصل إلى مدينة لا يعرفها. في حي الوشواش حيث يعيش أهله منذ عقود، لم يجد جيرانه السنّة، قيل له إن هؤلاء تركوا الحي مع بداية الاقتتال، وإن الشائعات كثرت ففضلوا الهروب. “صار 90 في المئة من سكان الحي من الشيعة، أهلي يشعرون بالأمان فيه، ولا يغادرونه أبداً خوفاً من غدر القناصة”.
    الأمان الذي يتحدث عنه لا يعني أن الموت لا يزور الحي يومياً، فعند كل صباح يجد الأهالي جثثاً مرمية في جدول صغير يمر قرب البيوت حتى صار اسمه “نهر الموت”. وتقع مواجهات عند الصباح عادة، يركن مسلّحون سيارات فخمة عند مدخل الحي ويقتحمونه بحثاً عن “مطلوبين” ويقتلون كل من يصادفون في رحلة بحثهم. يقول أمين إن الأهالي يتعرفون إلى السيارات، وإن من بين “زوّار الفجر” هؤلاء رجال أحمد الجلبي.
    لدى وصوله إلى بغداد حاول أمين أن يبحث عن كلّ أصدقائه ــــــ عن الذين لا يزالون أحياء بينهم ــــــ لبّى دعوات بعضهم، لكنه فوجئ بتحذيرات ذويه، كانوا يقولون له: “لا تزر بيوت السنة، سيقتلونك”، استغرب المفردات الجديدة التي دخلت قاموس العراقيين. الحذر والكره صفات تحكم العلاقات في ما بينهم، تعوّدها بسرعة، لكنه كره الأحياء التي تحولت إلى سجون مقفلة لا يغادرها سكانها إلاّ نادراً، فهذه “السجون” وحدها تحميهم من “الذبح على الهوية” الذي تمارسه مختلف الجماعات المسلحة.
    تنقلات أمين كانت قليلة إذاً، دخل مدينة الصدر فوجدها شبه مدمرة، حكى له الأهالي كيف اعتادوا العيش والمواجهات وعمليات الدهم والاقتتال يقع يومياً في حاراتهم، قالوا له ما يرويه أبناء “المناطق والجماعات الأخرى”، ورث المتقاتلون عن نظام صدام أسلوبه في تعذيب معتقليه، الماء والكهرباء والضرب بالخرطوم، “ثم تأتي في النهاية رصاصة الرحمة لتضع حداً للعذاب بالموت”.
    توجه لزيارة أصدقاء في حي الزعافرة، فمرّ بعشرات الحواجز الأميركية. “في كل زاروب حاجز، هذه المنطقة تنال قسطاً كبيراً من عمليات الدهم، تحوم طائرات جيش الاحتلال فوقها ليل نهار، والجنود يسرحون ويمرحون حولها وفي زواريبها، وقد جعلها الحرس الثوري وأعضاء الجماعات التكفيرية وجهتهم شبه اليومية “فتحصنت المنطقة بدرعها الطائفي لترد عنها شر هؤلاء”.
    بعد شهر من الإقامة في بغداد شعر أمين بأن “التخشيبة” البائسة التي يعيش فيها في منطقة الحدث قرب بيروت هي خشبة الخلاص من رائحة الموت التي سدّت أنفه وغرزت مخالبها في روحه. طلب من سائق تاكسي أن يقلّه إلى حيّ قرب كرادة مريم لينطلق من هناك في رحلة العودة إلى لبنان. ابتسم السائق يذكّره بأن أسماء الشوارع تغيرت، ابتسم بدوره، هو لن يحفظ الأسماء الجديدة، سيحفظ فقط أن زعيم كل عشيرة أو منطقة أو حي صار يغيّر أسماء الأمكنة حسب هواه، وأن الدولة لاهية بالتواطؤ مع الاحتلال، وأن موظفيها الجدد من أصحاب الشهادات المزوّرة “شهادات رخيصة جداً لا يزيد سعرها على 150 دولاراً حسب الاختصاص والدرجة العلمية المطلوبة”.




    من العراق سيراً على الأقداموفي المقالة قصة أسعد (21 سنة) الذي هرب من العراق سيراً على الأقدام، وهو مسيحي ووالده تاجر.
    فمن العراق إلى تركيا، ومنها إلى اليونان، كانت المسافة التي قطعها أسعد ماشياً، تخفّى وقطع قرى بلاده المعزولة وسبح في مياه أنهر لم يعد يذكر اسمها. تخفف من كل ما يمكن أن يثقل كاهله في الرحلة. حمل المال وفرّ من متطرفين قتلوا قريبه ودفعوا والده إلى ترك البلاد.
    من العراق إلى الولايات المتحدة، توقف أسعد في محطات عديدة، ودفع آلاف الدولارات. كان يُحجز في مراكز اعتقال المهاجرين غير الشرعيين، ثم تقوده “الأقدار” إلى “تجار” الهجرة الممنوعة، يحملونه في سيارات أو باصات من حدود إلى أخرى، فانتقل من اليونان إلى إسبانيا، ثم البرازيل فغواتيمالا، ومنها ذهب إلى المكسيك، واستقلّ باصاً فيه مهاجرون من أميركا اللاتينية، وعند الحدود الأميركية راح يصرخ للحراس “أنا عراقي أحتاج إلى المساعدة”.
    أسعد الكلداني حظي بمساعدة مؤسسة ترعى الكلدانيين الآتين من الشرق الأوسط، وهو في انتظار أن يحصل على أوراق إقامة شرعية وطويلة ليحضر ذووه إليه.