نقولا ناصيف
أُوصدت الأبواب، حتى إشعار آخر، في وجه الحوار الداخلي بين قوى 14 آذار والمعارضة. ذلك يعني أن الساحة باتت مفتوحة على سجالات لا قعر لها، من غير أن يتقدّم أيّ من الطرفين بتنازل سياسي مهم للآخر. في الظاهر يعكس الفريقان ارتياحاً إلى ما أضحى عليه الوضع حاضراً: الغالبية ترى أنها أخرجت المحكمة ذات الطابع الدولي من ضغوط المعارضة وأحالتها على مجلس الأمن، من غير أن تتخلى عن سيطرتها على ثلثي حكومة الرئيس فؤاد السنيورة. والمعارضة كرّست استمرار الاعتصام المفتوح في وسط بيروت أشهراً إضافية وجمّدت مقدرة الحكومة على الحكم ووضعتها أمام استحقاق رئاسة الجمهورية عاجزة عن إدارته بمفردها.
وتقترن هذه الخلاصة بالمعطيات الآتية:
1 ـــــــ لا عودة إلى الحوار بين رئيس المجلس نبيه بري ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري بعدما توقف عند جولته السادسة في 17 آذار، قبل أن تطيحه، ليل 3 نيسان، مذكرة الغالبية إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، تطلب منه وضع مجلس الأمن يده على مشروع المحكمة الدولية وإقراره. وبعد الخطاب الأخير للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الأحد الفائت (8 نيسان)، بإقفال أبواب الحوار، تعكس أوساط رئيس المجلس الخيار نفسه من غير ربط موقفه بموقف نصر الله مباشرة. وهو أن بري بات يعتبر أنه لا موجب من الآن فصاعداً لاجتماعات يعقدها مع الحريري ممثلاً الغالبية إذا كانت هذه لمجرد اللقاء. ومنذ الساعات الماضية المنصرمة يتصرّف بري، تبعاً للأوساط نفسها، على أنه لا تواصل مع الفريق الآخر إلا إذا وجد هذا الأخير أن ثمة ما يقدّمه في العرض السياسي المطروح، وهو تأليف حكومة وحدة وطنية وفق معادلة 19 + 11. ووفق بري، لم تكن المحكمة الدولية بالنسبة إليه هي المشكلة، ولا شرطاً حتمياً لتلازم حكومة الوحدة الوطنية وتأليفها، إلا أن إقرارها عملاً بالأصول الدستورية يقتضي أن يعبر بها من خلال هذه الحكومة التي هي المصدر الفعلي للمشكلة مع قوى 14 آذار.
يترافق هذا الموقف مع تأكيد الأوساط نفسها أنه لا وسيط عربياً أو محلياً دخل على خط التطور الأخير. وأكثر من أي وقت مضى، التزم السفير السعودي عبد العزيز خوجة الصمت والتريث، من دون أن يبادر إلى الاتصال بأيّ من طرفي النزاع في الساعات التالية لخطاب نصر الله. ويعبّر هذا التريّث عن موقف كان قد سمعه من خوجة بعض زواره، السبت، من أنه ينظر بقلق بالغ إلى الوضع الداخلي ويخشى عليه من تصاعد وتيرة التشنج السياسي. لكنه في الوقت نفسه لا يريد تحميل التحرّك السعودي أكثر مما ينبغي، وألا يُدخل المملكة طرفاً في نزاع لا يريد فريقاه المعنيان الاحتكام فيه إلى الحوار الجدي. أضف أنهما أسهبا أخيراً في الاجتهاد وتأويل نطاق جهود خوجة.
2 ـــــ لا تربط المعارضة بين وقف الحوار مع الغالبية وبين تصعيد سياسي في الشارع، بل تؤكد جهات واسعة الاطلاع فيها أنه لا خطوات ملحوظة حيال هذا الأمر في المرحلة المقبلة. إلا أن الاعتصام مستمر، ويتعيّن على قوى 14 آذار أن تستعد لجولة سياسية من النزاع هي انتخابات رئاسة الجمهورية، إذا كان في وسعها خوضها منفردة.
3 ـــــــ نظرت الغالبية باستمرار إلى الصفقة التي عرضتها عليها المعارضة على أنها تفاهم غير متكافئ، تصفه شخصية بارزة في قوى 14 آذار بأنه أشبه بصفقة «سلطة في مقابل ورق»، فيما أبسط مواصفات صفقة متكافئة على الأقل هي تقاسم متوازن للسلطة: سلطة في مقابل سلطة. وبحسب الشخصية البارزة هذه، فإن معادلة كهذه يترجمها حصول المعارضة على رئاسة مجلس النواب (وقد تأكد أن لها صلاحية كافية لتجميد دور البرلمان) وعلى الثلث زائداً واحداً في حكومة الوحدة الوطنية، في مقابل حصول الغالبية على رئاسة الجمهورية (التي تملك بدورها صلاحيات تجميد المؤسسات الدستورية) وتخلي حزب الله عن سلاحه. أما المحكمة الدولية، تقول الشخصية نفسها، فهي خارج هذا الحساب، وقد برهنت قوى 14 آذار عن مقدرتها في استخدام مناورة ذكية أخرجت في الوقت المناسب مشروع المحكمة الدولية من التجاذب السياسي، وطرحت توازناً جديداً لمقايضة أكثر استحقاقاً لكل من الطرفين: سلطة في مقابل سلطة.
4 ـــــــ تقارب قوى 14 آذار التطورات الأخيرة على نحو مختلف، ويعتقد مسؤول واسع الاطلاع فيها بأن الخطاب الأخير لنصر الله أزال غموضاً أحاط بمعلومات كانت متوافرة لدى هذه القوى، عن أن حزب الله كان يقود لأشهر خلت خطة مدروسة لتعطيل إقرار مشروع المحكمة الدولية. وبحسب المسؤول، تبلّغت مراجع في الغالبية، في الأسبوعين التاليين لإعلان تجميد العمليات العسكرية بين إسرائيل وحزب الله في الجنوب في 11 آب 2006، معلومات من مصادر موثوق بها أن سوريا طلبت من حلفائها في لبنان، وأخصهم حزب الله، ما بين 12 آب و23 منه، بذل كل جهد ممكن للحؤول دون إقرار مشروع المحكمة الدولية. وقضى ذلك باتخاذ سلسلة خطوات متدرجة رمت إلى إمرار الوقت، من بينها تعطيل انعقاد مجلس النواب ما بين تشرين الأول وكانون الأول الفائتين، ثم إمرار الوقت مجدداً إلى حين انعقاد القمة العربية في الرياض في 29 آذار المنصرم. ويلاحظ المسؤول نفسه أن قوى 14 آذار تعاملت في الاشتباك السياسي المستمر بينها وبين حزب الله منذ أشهر، انطلاقاً من اعتقادها بأن دمشق هي التي ترفض المحكمة الدولية. وبدا تالياً للغالبية، أنها تقاوم ضغوط سوريا من خلال مواجهتها المباشرة مع حليفها اللبناني حزب الله، قبل أن تفاجأ في خطاب الأحد بأن الأخير هو أيضاً لا يريد المحكمة الدولية.
ويبدو عند هذه المسألة أيضاً تعارض تقويم طرفي النزاع لمصير المحكمة الدولية، إذ فيما تجزم قوى 14 آذار بإقرار مجلس الأمن في مدى قريب مشروعها، متجاوزاً الأصول الدستورية اللبنانية بسبب عدم التئام مجلس النواب وإحجام الرئيس إميل لحود عن توقيعه، وبذلك يكون الرئيس الفرنسي جاك شيراك قد نجح قبل مغادرته قصر الإليزيه في 20 أيار المقبل في مؤازرة فريق الغالبية للوصول إلى هدفه هذا، تتسلّح المعارضة بوجهة نظر مغايرة إذ تربط إخفاق إقرار المشروع في مجلس الأمن بإخفاق مماثل هو تعذّر توجيه ضربة عسكرية أميركية للمفاعل النووي الإيراني. أضف، في حساب المعارضة، أن التمديد الجديد لرئيس لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري سيرج براميرتس حتى حزيران 2008، يمثل سبباً إضافياً لمزيد من استمهال المشروع ومناقشته قبل إقراره. وتذهب المعارضة في القول إن «نزاع المهل» سيتحكم بمسار تطورات الشهرين المقبلين في لبنان: في أيار يخرج الرئيس الفرنسي من السلطة، وفي حزيران يسقط نهائياً احتمال العمل العسكري الأميركي ضد إيران.
وبين هذا التاريخ وذاك، تراهن المعارضة، وحزب الله خصوصاً، على مفاجأة تعيد مشروع المحكمة الدولية إلى المؤسسات الدستورية اللبنانية.