جان عزيز
مفارقة تسجّل للتاريخ، أن يغمز نبيه بري من قناة بطرس حرب، على خلفية «آخر صلاحيات الموارنة» في النظام اللبناني الحالي. والمفارقة التاريخية تتجلّى أكثر عند هلهلة عناصرها: فالنظام المقصود هو «دستور الطائف». والنائب الماروني المعني هو المشارك الوحيد في تلك الاجتماعات السعودية سنة 1989، الذي تجرأ ورد على استعلائية سعود الفيصل، حين توجّه إلى النواب اللبنانيين بالقول: Take it or break it، ليسمع جواب حرب وحيداً: Lets break it. أما رئيس مجلس النواب الغامز، فهو ليس غير خليفة عراب الطائف، الذي لطالما قيل واتُّهم بأنه فصّل صلاحيات سلطاته على قياس موقعه في ساحة النجمة، فلا من يحلّه ولا من يعزله، ولا من يفرض عليه جلسة، ولا من يعتبره منحلاً ولو استقال النواب جميعهم...
ومع ذلك كله وقف نبيه بري ليغمز من قناة بطرس حرب حول حقوق الموارنة. أصلاً، المشكلة عمرها من عمر الطائف نفسه. يومها أيضاً كان الموارنة الهناك، مهجوسين بالأشخاص الهنا. فهاجس منع ميشال عون من الوصول إلى رئاسة الجمهورية، جعلهم ينجزون المادة 49 من الدستور في شكلها الذي تعدّل 3 مرات في 9 أعوام، كل منها لمرة واحدة استثنائية. وهاجس العلاقة بين أمين الجميل والمواقع الدستورية الأخرى، جعل «الطائفيين» يفرضون على رئيسهم مهلاً للتواقيع، لا تفرض على أي مسؤول سواه. فصار الوزير أقوى من الرئيس، حتى قبل أن يصير وليد عيدو جرير زمان أردأ.
هكذا تحكّمت عقد سياسيي الموارنة بنظرتهم إلى النظام ومستقبله وكيانيته وميثاقيته. فخرج الطائف بمعادلة مفادها، لا تصحيح الأرجحية المسيحية والغبن الإسلامي عبر تكريس التوازن، بل الذهاب أبعد بقليل، صار في التطبيق أكثر، وقد ينفتح اليوم على الأكثر أو الملء. وقد يكون نجاح واكيم أكثر الصادقين في التعبير يومئذ عن محصّلة ذلك المصيف السعودي، حين صرّح باسماً بعد إحدى الجلسات: «حرقنا دين الموارنة»، فيما المرجعيات الروحية والحزبية المارونية في بيروت مغتبطة بقرب إزاحة كوابيسها الشخصية.
المهم أن الموارنة سنة 1989 وفي ما تلاها، قرروا، أو قرّر عنهم بعض قادتهم، أن يدفعوا من الجوهري ثمناً للعرضي، وأن يضحّوا بالأساس في سبيل التفصيل. فولد الطائف، ليموت بعده الموارنة أولاً، وليلحق بهم المسيحيون ثانياً، إلى أن بلغ الموت عنق «مستقبل الضريح»، فأفاق اللبنانيون جميعاً على ضرورة انتفاضة الاستقلال...
بعد 18 عاماً على الخطأ الأول، وعامين اثنين فقط على المصادفة التاريخية التي سمحت بوقف تداعياته، يبدو بعض الموارنة هم أنفسهم على عتبة التكرار. في سلسلة من المواقف الصادرة عن مرجعيات روحية وحزبية مسيحية، منذ تشرين الأول الماضي حتى اليوم، يتبيّن أن هناك استعداداً كامناً أو معلناً، أو مجرد قبول مضمر، أو حتى تمهيداً تدريجياً للتسليم بالآتي:
1 ــ التنازل عن صلاحية رئيس الجمهورية في إقرار جدول أعمال مجلس الوزراء، وتكريس عرف جديد يقضي باحتكار الموقع السني الأول لهذه الصلاحية من دون شريك ولا مُسائل.
2 ــ التنازل عن صلاحية رئيس الجمهورية في توقيع المراسيم بعد ردها إلى مجلس الوزراء وإقرارها ثانية من جانب الأخير. وبالتالي تكريس فصل الرمز الماروني الأول عن السلطة التنفيذية وجعلها حكراً على رئيس الحكومة.
3 ــ التنازل عن صلاحية دستورية عضوية وأساسية، أناطها النظام برئيس الجمهورية، وهي التفاوض من أجل إقرار المعاهدات الدولية. وبالتالي تكريس خسارة البند الميثاقي القاضي بجعل رئيس الجمهورية رئيساً للدولة.
4 ــ التنازل عن صلاحية عضوية أخرى لرئيس الجمهورية، وهي حقه في منح العفو الخاص بمرسوم، وذلك عبر قبول المرجعيات المسيحية «المعتدلة والبراغماتية» بالنظام المقترح للمحكمة الدولية المقبلة، الذي ينزع هذا الحق الرئاسي من دون التوصل إليه عبر الآليات الدستورية المرعية.
5 ــ التنازل عن صلاحية رئيس الجمهورية في رعاية تكوين السلطة القضائية. وذلك بعد التعديلات القانونية، والممارسات العرفية التي اتُّخذت في هذا المجال، والتي ألغت الموقع الميثاقي للرئيس الماروني في كونه رئيساً لكل السلطات الدستورية. ذلك أن إقصاءه عن هذا الدور الرعائي في تعيين قضاة مجلس القضاء الأعلى، مضافاً إلى التنازل المذكور في الفقرة السابقة، يكرسان فصل موقع الرئاسة عن السلطة القضائية، خلافاً لما هو قائم في نظامنا الأصل الفرنسي، وجعلها مرتبطة كلياً بموقع الحكومة رئاسة وتكويناً.
6 ــ ويظل التنازلان الأخيران هما الأدهى، وأولهما التخلي عن مبدأ توافقية السلطة في لبنان، وخضوعها الإلزامي للفقرة «ي» من الدستور، حول العلاقة العضوية بين «الشرعية» وعدم مناقضة «ميثاق العيش المشترك». وهو التنازل الذي كرّسه صمت بعض المرجعيات المارونية والمسيحية إزاء استمرار العمل الحكومي في غياب طائفة أساسية كاملة عن مجلس الوزراء. فيما المرجعيات نفسها رفضت استمرار عمل الهيئة الوطنية لقانون الانتخابات بعد استقالة عضويها المارونيين.
7 ــ أما التنازل الأخير فهو التلميح، ولو إيحاءً، باحتمال حصول انتخاب رئاسي من دون نصاب الثلثين في «مجلس النواب»، كما يقول الدستور، وهو المجلس الذي تنص المادة الثانية من قانون الانتخاب على أنه يتألف من «128 نائباً».
سبعة أساسيات جوهرية، قرر بعض الموارنة والمسيحيين التضحية بها، على خلفية التخلص من شخص موجود، أو آخر محتمل أو مستحق. تجربة مستعادة منذ 18 عاماً، فهل من يعتبر؟