نقولا ناصيف
تبدو واشنطن والرياض قطبي جذب في الوضع الداخلي اللبناني. لكل منهما دور مختلف عن الآخر في أسلوبه وطريقة تعاطيه مع حلفائه وآلية عمله ومراعاة مصالحه وأهدافه. كلتاهما معنية مباشرة بالمحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكلتاهما تزن على نحو مختلف العلاقة مع سوريا وسبل انتزاع تنازلات منها، من غير أن تتوهّما أن في الإمكان تجاهل تأثيرها لتحقيق استقرار سياسي وأمني في لبنان. وهكذا تتوزّع السفارتان الأميركية والسعودية أدوار التهدئة وإمرار الوقت، دون تعريض الحليف اللبناني الرئيسي، وهو قوى 14 آذار، لخطر الضعف أو الانهيار. مع أن السفارتين هما، منذ أسبوع، خارج دائرة الاتصالات والجهود الدبلوماسية: السفير الأميركي جيفري فيلتمان في بلاده منذ أكثر من أسبوعين وتُنتظر عودته نهاية الأسبوع الجاري، والسفير السعودي عبد العزيز خوجة يكتفي بمراقبة الوضع الداخلي منذ آخر تحرّك قام به في الساعات التالية لإرسال قوى 14 آذار في 3 نيسان المنصرم مذكرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون تحضّه على أن يضع مجلس الأمن يده على مشروع المحكمة الدولية وإقراره.
واستناداً إلى مصادر دبلوماسية واسعة الاطلاع في بيروت، فإن تقاطع المصالح بين الأميركيين والمملكة على الملف اللبناني، بشقيه: الإيجابي وهو دعم حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وفريق الغالبية النيابية، والسلبي المتصل بالموقف من سوريا، لا يحجب في واقع الأمر مرور العلاقات السعودية ــــــ الأميركية منذ مدة بأزمة تصفها هذه المصادر بأنها أشبه بتراجع مستمر، لكنه بطيء، ويتصل بأكثر من ملف إقليمي يعنيان به معاً.
وتدرج المصادر ذاتها المعلومات المتوافرة لديها في هذا السياق، في:
1 ــــــ عدم رضى أميركي عن الدور الذي اضطلعت به الرياض ورعايتها اتفاق مكة في 8 شباط الفائت بين حركتي فتح وحماس، على نحو أشعر الأميركيين بأن الاتفاق عزّز موقع الحركة الإسلامية الأصولية على حساب الرئيس محمود عباس الذي يحظى بدعم واشنطن. وتشير المصادر الدبلوماسية نفسها إلى أن نجاح اتفاق مكة حمل الأميركيين على إبداء عدم الرضى هذا بتأجيل زيارة كان العاهل السعودي الملك عبد الله يعتزم القيام بها لواشنطن. في الوقت نفسه تحاول الإدارة الأميركية إبراز التزامها حلّ مشكلة المنطقة من خلال ما تخطط له وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في الأيام الـ30 المقبلة، والذي يتركز على اجتماع اسطنبول لدول جوار العراق أوائل أيار، وتحرّكها بعد 10 أيام منه وتأثير ذلك على دول المنطقة، إضافة إلى إسرائيل وفلسطين لتحريك جهود السلام الفلسطيني ــــــ الإسرائيلي.
2 ــــــ عدم رضى أميركي عن نتائج اجتماع رايس مع وزراء خارجية الرباعية العربية (السعودية، مصر، الأردن والإمارات) في أسوان، يوم 24 آذار الفائت، وحضّها إياهم على النظر بإيجابية إلى اقتراح أميركي بفتح باب علاقات مباشرة مع إسرائيل. وعبّر عن عدم الرضى هذا ما بدا رهاناً لرايس عندما سألت وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل عن إمكان أن تقدم المملكة على مساعدة واشنطن في جهودها لتحريك مسار السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، انطلاقاً من تعاط سعودي «إيجابي» مع الدولة العبرية وفتح قناة اتصال، فكان أن فاجأها رد الفيصل: «قطعاً لا». وكانت هذه إشارة إلى رغبة العرش السعودي في ترتيب أولويات التسوية وفق المنطق المناسب لها.
3 ــــــ عدم رضى أميركي عما رافق انعقاد القمة العربية في الرياض في 28 آذار المنصرم و29 منه، وتحديداً في مسألتين أثارتا امتعاض واشنطن: أولاهما وصف الملك عبد الله وجود الجيش الأميركي في العراق بـ«الاحتلال». وثانيتهما الترحيب الحار الذي لقيه الرئيس السوري بشار الأسد لدى استقباله في الرياض، وما خلصت إليه القمة العربية بأن قررت مكان دورتها للسنة المقبلة في دمشق، مع ما يعني هذا القرار من ردّ فعل سلبي لواشنطن حيال دولة تمارس عليها ضغوطاً متشددة لإرغامها على تقديم تنازلات جوهرية داخل نظامها ومع جاريها المضطربين خصوصاً بسبب تدخلها فيهما، وهما العراق ولبنان.
ويبدو أن الأمر في حساب الأميركيين، تقول المصادر الدبلوماسية الواسعة الاطلاع، يتخطى الإعراب عن الاستياء إلى مراجعة متأنية تجريها الإدارة الأميركية لبعض معطيات اتصلت بما كان قد رافق القمة العربية أخيراً. وأبرزها:
ــــ امتناع رئيس مجلس الأمن الوطني السعودي الأمير بندر بن سلطان عن الرد على اتصالات عدة أجراها معه رئيس مجلس الأمن القومي الأميركي ستيف هادلي للاستفسار منه عن «الموقف غير القانوني»، بحسب وجهة النظر الأميركية، للملك عبد الله من الوجود العسكري الأميركي في العراق.
ــــــ توسّع مناقشات واجتهادات داخل الإدارة الأميركية تحدثت عن احتمال أن يكون الأمير بندر عرضة لمحاولة جدية لتقليص نفوذه داخل سلطة القرار في العائلة المالكة، في ملف العلاقات السعودية ـــ الأميركية، بعدما كان صاحب النفوذ الأكثر فاعلية فيه. ويلاحظ مسؤولون في الإدارة الأميركية، تقول المصادر الدبلوماسية الواسعة الاطلاع، أن ثمة جهداً ربما يرمي إلى نقل ملف العلاقات السعودية ـــ الأميركية من يد الأمير بندر إلى يدي ابني العاهل الراحل الملك فيصل: الأمير سعود الفيصل وشقيقه الأمير تركي الذي كان سفيراً للمملكة في واشنطن قبل أن يتنحى عن منصبه بسبب ما اعتبره تدخّل الأمير بندر في عمله، وتجاوزه إياه بإجراء اتصالات مباشرة مع الإدارة الأميركية لمعالجة ملف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
ـــــ يطرح مسؤولون أميركيون علامات استفهام مثيرة للجدل في أوساطهم، تتصل بما اعتبروه تغييراً في السلوك السياسي للملك عبد الله على نحو لم يعد يرضيهم. على الأقل في ما يتصل بالعلاقات السعودية ـــ الأميركية. ومع أن المصادر الدبلوماسية الواسعة الاطلاع تجد ربما ما يبرّر وجهة النظر السعودية حيال هذا التغيير في السلوك، وهو فشل التدخل العسكري الأميركي في العراق وعدم الحماسة الأميركية أو حتى الإخفاق الأميركي في التوصل إلى اتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فإن المسؤولين الأميركيين ــــــ تقول المصادر الدبلوماسية ذاتها ــــــ يلاحظون انتقالاً ملموساً لمراكز القوى الفعلية داخل العائلة المالكة من العائلة السديريّة (التي يتحدّر منها أعمام الأمير بندر، وأبرزهم: الملك الراحل فهد وولي العهد الحالي الأمير سلطان والد بندر) إلى عائلة آل الشيخ (التي تحدّر منها الملك الراحل فيصل ونجلاه الأميران سعود وتركي).