جان عزيز
بعدما تأكد استمرار المأزق السياسي الراهن، للأشهر الستة المقبلة على الأقل، وفي سياق البحث عن عدّة تقطيع الوقت، أو تصعيد اللهجات الانتظارية، خرج إلى العلن السياسي والإعلامي كلام عن «تفكير» فريق السلطة القائمة في تعيين وزراء جدد بدلاء عن الوزراء الستة المستقيلين. وهو ما أعاد الباحثين إلى دستور الطائف ومدى انطباق الأمر على مضمونه وأحكامه. والمقاربة في هذا المجال تبدأ بالنص، ثم بالممارسة أو التطبيق، مما يصيّر منهما عرفاً دستورياً.
في النص أولاً، يتبدّى جلياً من العودة إلى «القانون الأول» للجمهورية اللبنانية، أن مسألة تعيين الوزراء مشمولة بالإسهاب، ضمن نص المادة 53 من الدستور. فهي في فقرتها الرابعة تؤكد أن من صلاحيات رئيس الجمهورية أن «يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم».
علماً أن الكلمة الأخيرة من هذه الفقرة تطرح التباساً لافتاً، مقارنة بما جاء في الفقرة D من المادة 65، لجهة النص على ما «يعتبر مواضيع أساسية»: «تحتاج إلى موافقة ثلثي عدد أعضاء الحكومة المحدد في مرسوم تشكيلها»، من أجل إقرارها. إذ تذكر الفقرة المشار إليها من بين هذه المواضيع «إقالة الوزراء». والمقارنة بين النصين تدعو إلى التساؤل: هل إقالة وزير هي صلاحية من صلاحيات مجلس الوزراء بتصويت ثلثيه، وبالتالي لا صلاحية لرئيس الجمهورية حيالها، إلاّ التعامل معها وفق أحكام المادة 56 من الدستور: أي أن يصدر قرار الإقالة خلال 15 يوماً، أو أن يطلب من المجلس إعادة النظر فيه مرة واحدة، لا يمكن الرئيس حينئذ مواجهة أي إصرار مكرر على القرار؟ أو أن إقالة أي وزير خاضعة لمرسوم يتخذ بالاتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، كما يُفهم من المادة 53، وبالتالي تصير صلاحية الأول حيال هذه المسألة مطلقة، كما في تشكيل الحكومة؟
علماً أن البحث في النص دائماً، وفي سياق التدقيق في أحكام الدستور نفسه، يقود مجدداً إلى المادة 56، لجهة عمل رئيس الجمهورية في إصدار المراسيم والقوانين. ففي صياغة هذه المادة يظهر الفارق واضحاً بين اعتبار أي مرسوم أو قانون نافذاً، وبين طلب نشره، أي إيراده في الجريدة الرسمية حسب الأصول. وفي الحالتين، الجليّ أن حق طلب النشر يعود حصراً إلى رئيس الجمهورية، حتى عند نفاذ الصدور وانقضاء المهل. وبالتالي فإن تمنّع الأخير عن ذلك، يفتح المجال أمام اتهامه بخرق الدستور، وفق منطوق المادة 60 منه. لكن هذا الامتناع لا ينقل صلاحية «طلب» نشر القوانين إلى أي جهة أخرى إطلاقاً، ولا يعطيها قطعاً لرئيس الحكومة ولا حتى لمجلس الوزراء. وبالتالي فإن خرق رئيس الجمهورية للدستور، يرعاه الدستور نفسه بطلب محاكمته، ولا يبرر في أي حال من الأحوال خرقاً دستورياً آخر، كأن «يطلب» رئيس الحكومة نشر مرسوم أو قانون صار نافذاً دستورياً.
المهم، أنه في معزل عن الشرح السابق كله، يظل من الثابت والمحسوم، أن صلاحية تعيين وزير أو أكثر، منوطة دستورياً حصراً برئيس الجمهورية، بالاتفاق مع رئيس الحكومة لا غير. ولا شريك للرئيس في هذه الصلاحية، لا مجلس الوزراء ولا سواه.
أما في الممارسة والتطبيق، فيظهر من العودة إلى جمهورية الطائف في أعوامها الـ18 الماضية، أن 4 سوابق مسجّلة في هذا المجال. أولاها كانت مع حكومة الطائف الثانية، برئاسة عمر كرامي في عهد الياس الهراوي، في كانون الأول 1990. يومئذ تقدم سمير جعجع باستقالته من الحكومة، بعدما عيّن فيها وزير دولة. وظلت استقالته مجمّدة حتى 20 آذار 1991، يوم صدور مرسوم موقّع من الهراوي وكرامي، قضى بقبولها، ومرسوم آخر بتعيين بديل منه، كان يومذاك الوزير روجيه ديب. وهكذا أكدت هذه السابقة «الطائفية» الأولى التزام أحكام المادة 53 من الدستور، لجهة صلاحيات الرئيس في تعيين الوزراء.
السابقة الثانية سجّلت بعد أقل من عامين، مع حكومة رفيق الحريري الأولى في عهد الهراوي، يوم صدر مرسوم قضى بنزع حقيبة الوزير الراحل جورج افرام، وإسنادها إلى الراحل الياس حبيقة. لم يكن المجلس الدستوري قائماً في حينه، وكانت ثمة أصوات خبراء دستوريين تؤكد أن مثل هذا الأمر يجب أن يعود إلى مجلس الوزراء، بأكثرية ثلثيه. تقدم افرام بمراجعة أمام مجلس شورى الدولة لإبطال المرسوم. لكن الرد كان قراراً صادراً عن مجلس الوزراء بالثلثين، قضى بإقالة افرام. بعد فترة زمنية طويلة نسبياً، أصدر مجلس الشورى مطالعته القاضية بردّ المراجعة، لاعتبار موضوعها من «عمل السلطة»، لا عملاً إدارياً، وبالتالي قرر عدم صلاحيته فيها. كما صدر مرسوم موقّع من الهراوي والحريري قضى بتعيين جان عبيد وزيراً للدولة في المقعد الحكومي الشاغر، وحفظت مرة ثانية أحكام المادة 53 نفسها.
السابقة الثالثة سجّلت في عهد الحكومة الحريرية ذاتها، يوم نُزعت حقيبة الداخلية من بشارة مرهج وأسندت إلى ميشال المر. بعدما كان الأخير قد أمضى فترة «معاقبة» أرادها له الحريري، كما روى نقلاً عنه ذات مرة عصام فارس.
أما السابقة الأخيرة فسجّلت مع حكومة عمر كرامي الأخيرة في عهد إميل لحود الممدّد، يوم استقال فريد هيكل الخازن من وزارة السياحة، ليصير معارضاً. فصدر مرسوم موقّع من لحود وكرامي، قضى بتعيين وديع الخازن مكانه.
هكذا يظهر نص الدستور، كما سوابقه، أن تعيين أي وزير هو من صلاحية رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء، لا من صلاحية مقررات المجلس المذكور. فهل تستعد حكومة فؤاد السنيورة لخرق دستوري جديد، على طريق استكمال «نظام الفتوى»، و«الدولة الملك»؟