جان عزيز
إنها ساحة رفيق الحريري. أخيراً قالها فؤاد السنيورة. بعد أكثر من عامين على بحث هامس ومشاريع مطوية وجدل كامن ومضمر، قيلت.
صحيح أن السنيورة عرف كيف يمرّرها، مغلّفة بكل أدوات التورية والتخفيف. فالمناسبة أدبية لا سياسية. عنوانها افتتاح «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب». وحضور الكلمة المقصودة غير مباشر، بل عبر خطاب متلفز، لا يسمح بجس نبض السامعين، ولا تلقّي ردود فعلهم، ولا التكيّف معها. لكن رغم ذلك، تظل دلالات الحدث كاملة. فالنص مكتوب محضّر، والموقع على مسافة أمتار من «أرض المعركة» المطلوب اقتناصها. والفرصة سانحة لتكريس لبناني عربي ودولي، مجلّل بالبلاغة الأدبية الكاملة، فكانت اللحظة، وأعلن رئيس الحكومة اللبنانية أن «ساحة الشهداء»، «ساحة الحرية»، ساحة كل التسميات الأخرى السابقة، ليست إلاّ ساحة رفيق الحريري.
قد يرى البعض أن المسألة لا يمكن تصنيفها إلاّ في سياق الانجرار الأدبي العاطفي أو الوجداني، لمواطن لبناني تدرّج زمناً طويلاً ليبلغ ما بلغه. وهو في كل ذلك مدين لرفيق الحريري. فلا غرو إذا ما انجرف ــ من دون دمع ــ ليتكلم مجازاً عن «نسخ» الاسم التاريخي لساحة بيروت. وقد يرى آخرون أن الموضوع ذو دلالة سياسية، في حمأة صراع قاس حول معضلة ظاهرها مرتبط بمعرفة الحقيقة في اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق. وبالتالي قد يفهم «الفرمان الجديد» في سياق الرسائل المتبادلة بين الحكومة ومعارضيها سياسياً.
غير أن ثمة رأياً آخر يقول به عارفون ومطّلعون ومتابعون، ومفاده دمغ بيروت ولبنان بالتالي، بظاهرة شخصانية تلامس التأليه، عنوانها مفردتان: رفيق الحريري. أصحاب هذا الرأي يؤكدون أن لديهم معلومات تشير إلى أن هذه العملية موضع بحث وتخطيط وتنفيذ ومتابعة من الدوائر المعنية منذ مدة طويلة. علماً بأنه بمعزل عن صحة هذه الأقاويل أو خطئها المطلق، يظل ثابتاً أن سلسلة من المحطات قد تحققت في هذا المجال منذ عامين. ومنها:
1 ــ تحويل اسم الحرم الرئيس للجامعة اللبنانية في منطقة الحدث ــ بعبدا إلى اسم «مدينة رفيق الحريري الجامعية»، مع ما لهذه المنطقة من رمزية سياسية.
2 ــ تحويل اسم مستشفى بيروت الجامعي إلى اسم «مستشفى رفيق الحريري». علماً بأن هذا التبديل طرأ بعد استكمال تجهيزات المستشفى كاملة، بما فيها من لافتات داخلية وخارجية، ومستندات مطبوعة وأوراق معاملات ومراسلات، ولباس موحّد لمختلف الجسم العامل في «مستشفى بيروت الجامعي» سابقاً، وهو ما اقتضى بحسب بعض المعلومات، رصد موازنة غير بسيطة لإتلاف كل ما كان قد أنجز واستبداله بكل ما ينسخ الاسم الساقط ويكرس الجديد: «مستشفى رفيق الحريري».
3 ــ تحويل اسم مطار بيروت الدولي بعد نحو نصف قرن على إطلاقه، لجعله كما يقال اليوم، «مطار رفيق الحريري الدولي». مع أن ثمة لغطاً مكتوماً كثيراً يدور حول هذه المسألة، إذ إن إقرارها المعلن حصل في ظل حكومة نجيب ميقاتي. غير أن مصادر وزارية مشاركة في تلك الحكومة الانتقالية الانتخابية، أشارت أكثر من مرة إلى أن غموضاً ما رافق قرار التسمية. فالبعض اعتقد أن مجلس الوزراء قصد تسمية إحدى قاعات مطار العاصمة، أو أحد مبانيه، باسم الحريري، ليتكرس لاحقاً المطار برمته، تحت الاسم الجديد. وما يزيد من هذا الغموض، أن المنظمة الدولية للنقل الجوي (أياتا) لا تزال حتى يوم أمس على موقعها، تورد اسم المطار اللبناني المقصود تحت اسم «مطار بيروت الدولي»، ضمن لائحة شركات الطيران الأعضاء في المنظمة، وتحديداً تحت اسم «شركة طيران الشرق الأوسط»، وهو ما يسمح للقائلين باللبس المذكور آنفاً، القول إن التسمية الجديدة قد مُرِّرت كأمر واقع عبر المعاملات والمراسلات لا غير. علماً بأن مسؤولين رسميين آخرين يؤكدون خطأ هذه الأقاويل، ويجزمون بأن حكومة ميقاتي كرّست مطار العاصمة بأكمله، تحت اسم الحريري.
4 ــ شيوع ظاهرة يؤكدها العديد من زوار بعض الإدارات والدوائر الرسمية، حول رفع صورة الحريري كصورة رسمية في المكاتب التابعة لهذه الدوائر. وهي ظاهرة معروفة في معظم الدول المجاورة، لكنها تُعَدُّ غير مسبوقة في لبنان.
5 ــ عدم اتّضاح الأسباب الدافعة إلى إبقاء الطريق مقفلة، عند خليج مار جرجس في منطقة رأس بيروت، في المحلة التي وقع فيها الانفجار المجرم في 14 شباط 2005، خصوصاً أن لجنة التحقيق الدولية تؤكد منذ أشهر طويلة أنها فرغت كلياً من العمل على الموقع، وبالأخص في ظل مزاعم مترددة ومدسوسة، حول نية أحدهم إلغاء الطريق نهائياً وجعله مقاماً موازياً لمقام ضريح الحريري.
6 ــ تكريس ظاهرة صدور قرار حكومي بالتعطيل يوم 14 شباط، تكريماً لذكرى رئيس حكومة سابق، وهو ما لم يحصل مع تواريخ أخرى مماثلة، ولا حتى مع تاريخي 14 أيلول و22 تشرين الثاني، الموافقين ذكرى اغتيالي رئيسين للجمهورية في أثناء ممارسة سلطاتهما الدستورية.
7 ــ يضاف إلى كل ما سبق مجموعة من الإجراءات والتدابير المتّخذة داخلياً وخارجياً، على أكثر من مستوى ورمزية.
لكن ماذا عن «ساحة الشهداء»؟ أصحاب الأقاويل أنفسهم يقولون إن الموضوع كان قد بحث في نطاق هيئة رسمية معنية بالعاصمة اللبنانية. لكنه أجّل لأسباب معروفة. فهل يفتح كلام السنيورة الباب لإعادة طرحه؟ وهل يتماشى ذلك مع نزعة الرئيس الراحل نفسه، إلى إلغاء تسميات الأشخاص، كما حاول مع «مدينة كميل شمعون الرياضية»، و«قاعة بيار الجميل» المقفلة داخلها قبل أعوام من اغتياله؟ مسألة للمتابعة والتدقيق والتيقّظ.