جوان فرشخ بجالي
ما هو مصير المدينة القديمة في بنت جبيل؟
هذا هو السؤال الذي يؤرّق كثيرين من المهتمين بالحفاظ على تراث هذه المدينة الفريدة من نوعها في لبنان والتي لم تحظَ بأي اهتمام من المعنيين بالمحافظة على التراث في الدولة اللبنانية رغم الدمار الكبير الذي لحق بها. متطوّعون من الجامعة الأميركية دقوا ناقوس الخطر


توقفت أعمال الجرف في المدينة القديمة في بنت جبيل منذ شهر كانون الأول الفائت غير أن التهديد بزوال تاريخها لا يزال يخيّم على أحيائها. بيوت تاريخية يعود البعض منها الى القرنين السابع عشر والثامن عشر، قد يقرّر أصحابها هدمها طمعاً بالتعويضات فتتحقق أسوأ الاحتمالات لهذه المدينة التاريخية: هدم البيوت حتى قبل بحث الضرر اللاحق بها وكيفية إصلاحه.
هذه المخاوف لم تولد من فراغ بعد عمليات جرف متعددة تعرّضت لها الكثير من البيوت في المدينة القديمة قبل أن يتدخل متطوّعون من الجامعة الأميركية ويدقّوا ناقوس الخطر متحدّين الجرافات التي كانت تعيث خراباً في ما نجا من البيوت التي دمّرها العدوان.
يقول المهندس هيثم بزي، وهو من الناشطين في حقل المحافظة على إرث بنت جبيل وأحد أعضاء لجنة البلدية «إن القرار النهائي بوقف الجرف في البلدة التراثية والمحافظة عليها جاء في شهر كانون الأول الماضي، وقد دعمه بشكل مطلق نواب حزب الله وفعالياته. قبل ذلك، كان الجرف يتم بشكل عشوائي، فيُهدم مثلاً بيت مصاب بالقصف مع أن ترميمه كان ممكناً، ولكن أصحاب الملك أرادوا الحصول على التعويضات التي ترتفع قيمتها بالنسبة إلى المنازل المهدومة». في رأيه «تكمن المشكلة في تثقيف الناس ليدركوا قيمة البيوت التاريخية وأهميتها».
الكلّ يرمي مسؤولية تدمير البيوت في المدينة القديمة على عاتق المتعهّد. ويقول بعضٌ من سكّان المدينة والناشطين في قطاع المحافظة على التراث «إن المتعهّد يجني ثروات من رفع الأنقاض، وخصوصاً أن مجلس الجنوب حدّد أجره بما يزيله من أطنان». وهذا لغط يُظهر أيضاً انعدام الحوار. فيكذّب مدير شركة يمن للمقاولات، متعهد رفع الأنقاض في بنت جبيل، محمد عيراني تلك الأقاويل جملةً وتفصيلاً، إذ يقول: «مجلس الجنوب يدفع لنا على المتر المكعب لا على الطن، وطريقة المحاسبة هذه معتمدة في كل عمليات رفع الأنقاض في لبنان. هذا بالإضافة الى ان عملية الهدم تتطلب موافقة من البلدية والمستشار الهندسي لديها (مكتب خطيب وعلمي للهندسة)، ومن مجلس الجنوب وصاحب الملك. وحينما تتوافر تلك التواقيع يُهدم المبنى». ولكن عيراني لا يخفي أنه يتعرض في الآونة الأخيرة «لضغط كبير من أصحاب العقارات في المدينة القديمة الذين يطالبون بجرف بيوتهم لقبض التعويضات». وهو في بعض الأحيان يرضخ لرغباتهم ويقوم بالمطلوب ويوفر الغطاء القانوني لهذا العمل لاحقاً، لكنه توقف اليوم عن الجرف ولن يعاود ذلك «إلا إذا توافرت كل المتطلبات لذلك»، كما يقوللكن هذه المتطلّبات لن تتوافر قريباً، يأمل المعنيون، وخصوصاً بعدما دقّ فريق من المتطوّعين من مهندسي الجامعة الأميركية في بيروت ناقوس الخطر، وأجرى مسحاً للمدينة حدّد فيه الأبنية ذات الأهمية التاريخية، ثم التقى بالمسؤولين عن هذا القطاع للعمل على المحافظة على هوية بنت جبيل. المهندسة هويدا الحريثي أحد أفراد هذا الفريق وتعمل على المشروع منذ وقف الحرب، تقول: «نعمل كي نجنّب المدينة الخطر الذي كادت تنجزه الحرب وهو تدمير المدينة القديمة، لأن خسارتها تعني تغيير الذاكرة الجماعية».
بناء على هذا العمل التفتت البلدية إلى أهمية الموضوع وكلّفت فريقاً من ثلاثة مهندسين إعادة مسح المدينة القديمة، علماً أن فريق الجامعة الأميركية كان قد قام بذلك وقدّم للبلدية والمموّل القطري جميع الخرائط. ويقول رئيس المجلس البلدي الدكتور علي بزي «إن الهدف هو بناء بلدة نموذجية جديدة مع الحفاظ على التراث والذاكرة، وسيُعاد استخدام حجارة المنازل التي سيتم جرفها، وإعادة بناء المباني الرمزية القديمة للبلدة، مثل مبنى المطحنة القديمة التي يعود تاريخها إلى 155 سنة، ومنزل النائب والوزير الراحل علي بزي، وستُبنى 900 وحدة سكنية من بينها 100 منزل من الحجر الطبيعي».
ويشرح المهندس حبيب دبس، رئيس فريق الجامعة الأميركية «أن المموّلين القطريين وافقوا على إعطاء كلّ متضرر من سكان المدينة القديمة مبلغ 40.000 $ حتى لو لم يكن بيته مهدوماً، ما يعطي زخماً لعملية إنقاذ الوسط القديمتبلغ كلفة إعادة إعمار البلدة القديمة، التي تضمّ نحو 1130 وحدة سكنية، نحو 45 مليون دولار أميركي، وهو رقم أفصح عنه بعض المطّلعين على المشروع بعدما رفض المسؤولون القطريون ذلك. ويشرح المهندس خالد الهتمي، مدير البرنامج القطري لإعادة إعمار الجنوب «أن المخطط التوجيهي الذي سيُختار لمدينة بنت جبيل سيكون للحفاظ على تراث المدينة القديمة وهويتها». ويقول «لقد كلّفنا أربعة مكاتب هندسة إجراء دراسات أوليّة وتقديم رؤيتهم للمخطط التوجيهي، ولدينا دراستان جاهزتان وننتظر الأخرى». ولكن الى متى؟ «قد يطول الأمر. فهذه الدراسات تتطلّب وقتاً، وخاصة أن المشاكل كثيرة. فقد تسلّمت البلدية مثلاً 200 طلب للتنازل عن البيوت القديمة والخروج من هذه المنطقة. ويدفع الصندوق القطري مبلغ 40000 $ للوحدة السكنية (130 متر مربع) المهدمة، أما في حال الترميم، فيدفع المبلغ الذي يحدده المهندسون».
وكان الصندوق القطري قد بنى سوقاً جديدة تضم 284 محلاً تجارياً للتعويض عن الخسائر التي وقعت في سوق المدينة، والسماح للأهالي بمتابعة أعمالهم وحياتهم اليومية حينما يكون العمل جارياً في الوسط التاريخي.
لكن يبقى هناك الكثير من المشاكل التي قد تطرأ على العمل، منها: ماذا لو حصل صاحب العقار على التعويض وترك منزله المدمر ليبني آخر خارج المدينة، فما هو مصير الأرض التي كان بناؤه القديم قد شُيّد عليها؟ ومن يقرّر مصيرها؟ وكيف سيتم إدخالها في المخطط التوجيهي للمدينة؟ هذا بالإضافة إلى مشكلة المباني التي كانت قيد البناء قبل بدء الحرب ولم تُصب بضرر. فكيف سيتم إدخالها ضمن «هوية المدينة التاريخية»؟
أسئلة تنتظر البدء بالعمل... فهل يكون قريباً؟




افتقار إلى الدراسات والمسوحات الأثريةويظهر هذا الازدهار الاقتصادي في أبنيتها الممـــــــيزة. وتدلّ الأشكال الهندسية والزخـــــــــارف الحجرية لبيوتها إلى غنى أصحاب العقارات، وهي أقرب الى مدن فلسطين وسوريا منها إلى مدن البحر الأبيض المتوسط.
غير أن هذه المدينة تفتقر إلى الدراسات التاريخية والمسح الأثري والتراثي لأبنيتها القديمة على رغم أنها فريدة من نوعها في لبنان، وهذا ما كان قد أشار إليه المختصون في ترميم الأبنية حينما وضعوا دراسة نُشرت في كتاب عن فن العمارة موّلته المفوضية الأوروبية.
ولم تقم الدولة اللبنانية بأي مبادرة للمحافظة على بنت جبيل أو دراستها منذ الانسحاب الاسرائيلي منها في أيار عام 2000 وحتى حرب تموز الأخيرة. غياب الدولة يفتح الباب أمام «المتطوعين» في هذا الإطار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.


دور «استشاري» للدولة!

يتمتع وسط المدينة التاريخي في بنت جبيل بكل المقوّمات المعمارية والتاريخية لتصنيفه على لائحة الجرد العام للمباني الأثرية، ما يعني قدرة الدولة على إصدار قرارات ترغم الجميع على المحافظة عليها. لكن يبدو أن الدولة غائبة عن هذا الملف وتكتفي بتأدية دور «الاستشاري» من خلال «المديرية العامة للآثار». فيؤكد مسؤول مكتب الجنوب في المديرية علي بدوي أنّه على اطلاع على كل المجريات والدراسات والقرارات التي تتعلّق بالموضوع ويشارك في البحث عن أفضل حلول.
ويشرح المدير العام للآثار فريدريك حسيني التزام هذا الدور «لعدم قدرة المديرية على استيعاب مشروع كهذا إن من حيث الطاقم البشري وإن من حيث الكلفة المالية لذلك. فموظفو المديرية عددهم محدود ويعملون على كل الأراضي اللبنانية، وتقديم طلب تمويل دراسات من وزارة المال ليس بالأمر السهل». ويضيف الحسيني أن «المخطط التوجيهي يقع في إطار عمل التنظيم المدني لا المديرية العامة للآثار».
صحيح أن التصنيف يحتاج إلى أيام وشهور وربما سنين لإصداره، وقد يتطلّب الكثير من العمل والمال ما يثقل كاهل الدولة، لكن حينما تدعو الحاجة يمكن إصدار قرار وزاري واحد يصنّف المدينة ويوقف الهدم. لأن التصنيف يحمي المدينة القديمة ويجعلها في حمى الدولة بحيث لا يتخذ أيّ قرار في شأنها من دون موافقتها.
من جهة ثانية، يخلّف «غياب» الدولة اللبنانية عن ملف المحافظة على الإرث الثقافي والتاريخي ثغرة هائلة في اللاوعي الجماعي ويرسّخ فكرة أن «الدولة لا تهتم». هذا بالإضافة إلى أنه يفتح الباب أمام مشكلة جديدة لم تكن في الحسبان وهي «تسييس التاريخ» الذي ليس ملكاً لأحد. فعندما تبدأ فعاليات معينة بالعمل على إنقاذه أو تدميره سيأخذ تلقائياً لوناً سياسياً معيناً. سيرفضه البعض، ويقبله البعض الآخر. ويصبح التاريخ، المحايد، في صلب المعركة.