إبراهيم الأمين
لن يكون بمقدور أحد عدم الترحيب بمساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون القانونية نيكولا ميشال. وربما سيعمد كثيرون إلى مقابلته والتحاور معه في مهمته. لكن الأكيد أن المعارضة لم تبتّ بعد موقفها من تقديم الملاحظات على مشروع المحكمة تلميحاً أو تصريحاً، ذلك أن الأمر يتعلق بتصور المعارضة لخلفية هذه المهمة التي تتم في ظل ضغط أميركي ــــ فرنسي غير مسبوق لأجل إقرار المحكمة في مجلس الأمن خلال شهر من الآن، وهو الأمر الذي بدا على سلوك الأمين العام للمنظمة الدولية بان كي مون الذي يُعتقد على نطاق واسع في الأمم المتحدة بأنه قليل الخبرة في ملفات كثيرة، ويتندّر موظفون كبار في الأمم المتحدة رافقوه في زيارته الأخيرة الى بيروت برواية أنه كان ينظر من الطائرة التي أقلته من السعودية الى بيروت وقال للجالسين بقربه: جميل المحيط من هنا!. فرد عليه أحد مساعديه مصححاً: إنه البحر المتوسط حضرة الأمين العام.
ليس في الأمر نكتة، بل فيه ما يشير الى أن الرجل الذي عقد قبل أيام اجتماعات متتالية ومكثفة مع المندوبين الأميركي والفرنسي في الأمم المتحدة، كان كثير القلق والاضطراب. دافع هو عن نظرية الوقت المفتوح لمنع قيام أزمة سياسية ودبلوماسية، لكنه كان يطلب إذناً ولم يكن يتحذ قراراً في لحظة حرجة كالتي نحن فيها الآن. الفرنسيون أكدوا أن على بان أن ينهي مشاوراته في غضون أسبوعين فقط، وأن يترك لباريس وواشنطن أمر التفاوض الجدي مع الأطراف النافذة في مجلس الأمن. وهو يعرف تماماً أن جدول الأعمال بين هذه الدول لا يتصل بما هو معروض في شأن المحكمة. لكن واجب الأمم المتحدة ولو الشكلي يقتضي التصرف بطريقة مختلفة، وقرار زيارته الى سوريا يتعلق أكثر بمناقشة من النوع الذي يقود عادة الى صفقة ما. وبالطبع فإنها ليست وفق شروط متبادلة باعتبار أن الفرنسيين والأميركيين أبلغوه أن قرارهم دعم قيام المحكمة لن تعوقه ملاحظات أو اعتراضات سورية، ما يعني أن بان كي مون لا يحمل أي تفويض بالتفاهم مع دمشق على أي شيء في شأن المحكمة، وتبدو زيارته للعاصمة السورية أشبه بـ«رفع العتب» قبل الشروع في إجراءات القرار، ومنعاً لأي سؤال لاحق عن سبب عدم مناقشة الأطراف المعنية.
وبحسب ما هو مرجح فإن القيادة السورية قررت إبلاغه بأنها غير معنية بالمشروع إذ إنه اتفاق يتم بين لبنان والأمم المتحدة، وهي غير معنية، أيضاً، بنظام المحكمة باعتبار أن قانون العقوبات السوري هو الساري على جميع السوريين المقيمين على أراضيها، وبالتالي فإنها لن تتعامل مع المحكمة كجزء من الشرعية الدوليّة ما دامت تتعامل مع لجنة التحقيق الدولية، إضافة الى تحفّظ تقني يتصل بأن في سوريا من يرى وجوب انتظار اكتمال التحقيق قبل التقرير في شأن المحكمة.
إلّا أن ذلك لا يلغي حرج سوريا من المشروع برمّته، وهي التي تعرف كما بقية العالم أن مشروع المحكمة وُضع للنيل منها، وأن الادعاء العام السياسي الدولي يركز عليها كمشتبه فيه رئيس في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبالتالي فإن النقاش الذي قام مباشرة أو بالواسطة حول الأمر لم يتجاهل يوماً أن المحكمة تستهدف سوريا، وأن بعض المواد التي وضعت في مشروع النظام تهدف الى جعل الدولة السورية بنظامها وأشخاص قيادتها والمسؤولين فيها عرضة للمساءلة أو الملاحقة من الهيئة القضائية التي ستشرف على أعمال المحكمة، وأن الأمر يجب أن يتم من دون مناقشة أو مراجعة، عدا عن الكلام السياسي الصريح من جانب جماعة أميركا وفرنسا في سوريا ولبنان من أن المحكمة ستكون وسيلة إضافية في مشروع إسقاط النظام السوري.
أما في شأن زيارة ميشال الى لبنان، فالصورة تبدو أكثر تعقيداً، إذ ليس في لبنان من يقدر على القول إنه غير معنيّ بهذا الملف، كما لم يسبق أن أعلنت أي جهة لبنانية رفضها لمشروع المحكمة أو لفكرتها، وبالتالي فإن الاعتراضات القائمة التي تتخذ لباساً سياسياً تستند الى مقاربة حقوقية لمشروع نظام المحكمة، وهو الأمر الذي عملت عليه القوى الأساسية في المعارضة التي استقت قراءتها للمشروع من قانونيين بارزين من لبنانيين وعرب وأجانب. وثمة تقدير لدى القوى النافذة في المعارضة بأن مشروع المحكمة كما هو مكتوب ليس من شأنه حصر العمل في مهمة كشف الحقيقة، بقدر ما هو موضوع وفق صياغة حرفية تقود الى تنفيذ مهمات سياسية، وأن الأمر قد يكون مفتوحاً على أشياء أخرى، وخصوصاً أن ميشال نفسه قال إن توسع المحكمة نحو جرائم أخرى أمر ممكن وذلك عبر آلية تتطلّب طلباً من الحكومة اللبنانية، وقراراً جديداً من مجلس الأمن بضم هذه الجريمة أو تلك الى نطاق صلاحيات المحكمة، وهذا بحد ذاته يفتح باباً سياسياً لأن الاستنساب أمر حاكم ومنظم لعمل الحكومات من جهة ولعمل مجلس الأمن من جهة ثانية.
الأمر الآخر يتصل بقراءة المعارضة القانونية والسياسية لمسار التحقيق الدولي واللبناني في الجريمة نفسها. والكلام الذي قاله الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله عن الاعتقال السياسي للموقوفين في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري يعكس هذا الفهم الناتج من تراكم مواد التحقيق التي لم تشر بعد الى أي اتهام واضح للموقوفين، كما لم تفسح المجال أمام تعرّف الموقوفين أنفسهم كما الوكلاء على ماهية الأدلة والعناصر التي تبقي هؤلاء في السجن، وقد رُفع منسوب الشك بعدما تبيّن أن لجنة التحقيق الدولية تراجعت رسمياً عن اعتبارها الموقوفين بمثابة مشتبه فيهم، وهذا ما برز في الكتب الموجهة من الرئيس الحالي للجنة التحقيق سيرج براميرتس الى وكلاء اللواء جميل السيد التي يضمّنها اسمه من دون أي صفة اتهامية كما كانت عليه الحال مع سلفه ديتليف ميليس الذي سبق أن كتب عن السيد نفسه وكان يشير إليه بصفته مشتبهاً فيه، إضافةً الى المعلومات التي قالها براميرتس شفهياً لعدد غير قليل من السائلين، بينهم من استفسره في مجلس الأمن أخيراً، فأفاد أن الأمر يعود الى القضاء اللبناني، وهو حدّد أن ما يعود الى القضاء اللبناني ليس سوى القرار الخاص بالاعتقال.
لذلك، فإن تقويم المعارضة لزيارة ميشال يأخذ في الاعتبار لعبة «رفع العتب» من جهة، ونصب «الفخ» القائم على فكرة أن على المعارضة إبلاغه ملاحظاتها على مشروع المحكمة، وهو الذي يقول مسبقاً بأن قرار الأخذ بها رهن ما يراه منطقياً، علماً بأنه لم يأخذ بملاحظات قدمت إليه بصورة غير رسمية من قانونيين وحقوقيين في العالم. كذلك لكونه يريد حسم الملف نيابةً عن فريق الأكثرية، وبالطريقة التي تؤدي الى القول إن الجميع في لبنان والعالم جرّب حظه مع المعارضة ولم يحصل على شيء...
طالع سيّئ يسبق وصول نيكولا ميشال الى بيروت ويلحق برئيسه بان كي مون الى دمشق!