لم تكن السعودية مرة لاعباً في تفاصيل الحياة اللبنانية كاليوم. وحرّي أنها أضحت ناخباً كبيراً. وقد يتأتى دورها من أن سوريا صارت مستعدة للقبول بدور جديد للمملكة في لبنان إذا عَدَلَ حيالها، وخصوصاً في الإستحقاق الرئاسي. وتخطياً لتقليد تاريخي هو ديبلوماسيتها الخجولة، فتوعز إلى سواها أن يطلب ما تريده هي، صارت الآن تقرّر المواجهة مع جوارها النزق: سوريا وإيران. لم تعد ما قيل كثيراً: تختفي زمن الأزمات، وتطل زمن الحلول. لم تلعب كسوريا ومصر والعراق دور منافس لأحد، لكنها قلقت مراراً: من تخريب جمال عبدالناصر الأنظمة بالثورات، وجنون صدام حسين لابتلاع جيرانه، ودهاء حافظ الأسد لاستئثار بالمرجعية.
نقولا ناصيف



مذ كانت مفوضية، 16 شباط 1946، في شارع فردان حتى انتقالها إلى شارع بلس وقد أضحت سفارة بات الملك سعود عام 1957 ليلة فيها، إلى أن أقامت في قريطم، أبصرت المملكة لبنان مستقراً ومشتعلاً.
من أيام الملك عبدالعزيز، مؤسس العرش السعودي (1932 ـ 1953)، اتسمت علاقة المملكة بلبنان بحوار دائم: مباشر بين البلدين، أو وسيطة بين لبنان وسوريا. ويكاد يكون الملوك السعوديون جميعاً تقريباً خبروا سوء التفاهم الذي شهده لبنان مع كل من سوريا ومصر: توسّط عبدالعزيز بين بشارة الخوري والملك فاروق عام 1951، وبينه وشكري القوتلي وحسني الزعيم وخالد العظم وأديب الشيشكلي بين 1948 و1951. وحذا حذوه أبناؤه الذين خلفوه: توسّط سعود (1953 ـ 1964) بين كميل شمعون وجمال عبدالناصر، وحاذر فيصل (1964 ـ 1975) انتقال خلافه مع عبدالناصر إلى لبنان، وتوسّط خالد (1975 ـ 1982) لمصالحة حافظ الأسد مع أنور السادات وياسر عرفات بغية وقف الحرب اللبنانية. مذذاك، تدريجاً، أضحت المملكة شريكاً سياسياً في لبنان. واجهت خلافات حادة مع سوريا في حقبة فهد (1982 ـ 2005). ثم أضحى لخلفه عبدالله الدور مزدوجاً منذ عام 2005 مع سوريا وإيران الواسعتي النفوذ في لبنان.
كان اللقاء الأول بين زعيمي البلدين في القاهرة، 28 أيار 1946، بين سعود ولياً للعهد والشيخ بشارة في اجتماع ملوك الدول العربية ورؤسائها. لكن والده الملك عبدالعزيز كان أول مَن جعل دور المملكة وسيطاً، في نيسان 1948، في حمأة نزاع بشارة الخوري والقوتلي على إلغاء الوحدة الجمركية وأزمة النقد بين البلدين وتهديد دمشق بقطع علاقاتها الإقتصادية بجارها الصغير. توسّط أيضاً بعد خلاف نشأ على آثار الإنقلاب الأول في سوريا بقيادة حسني الزعيم، في آذار 1949. ومع أنهما لم يلتقيا مرة، كانت بين الشيخ بشارة وعبدالعزيز عشرات مراسلات بين 1948 و1951، كان أبرزها تزامن اغتيال رياض الصلح وملك الأردن عبدالله في تموز 1951، وشكوك الرجلين في وجود رابط بين اغتيالي زعيمين عربيين في الأردن، وتأثيره على استقرار الدول العربية.
وخلافاً لأبيه الذي لم يعرف لبنانيين عن قرب إلا قليلين منهم كان أهمهم شمعون، أول رئيس لبناني يزور السعودية ويلتقي مؤسسها في 7 شباط 1953، إلى لبنانيين أثرياء مستثمرين في المملكة كحسين العويني منذ العشرينات وفي ما بعد نجيب صالحة، فإن أول أبنائه على العرش، الملك سعود، أرسى علاقات وطيدة مع لبنانيين اضطلعوا بأدوار متفاوتة التأثير. بعضها شخصي كلقائه شمعون للمرة الثانية زائراً المملكة في 23 آذار 1957، وبعضها الآخر سياسي مع زعماء سنّة بيروتيين، بينهم مَن نسج علاقات وثيقة كالعويني وصائب سلام عبدالله اليافي وسامي الصلح. وقف سعود مع مصر وسوريا ضد حلف بغداد عام 1955 الذي مال شمعون إلى تأييده، ثم انضم كالرئيس اللبناني إلى مبدأ أيزنهاور عام 1957، وشارك في القمة العربية الأولى في بيروت في تشرين الثاني 1956. قادته علاقاته هذه إلى التوسط بين شمعون ومعارضيه بعد انتخابات 1957: اجتمع في عمان بسلام واليافي والعويني في 3 حزيران. ثم زار بيروت في 7 أيلول لساعات قبل أن تنفجر بين الطرفين بعد أشهر «ثورة 1958». عاد إليها في 10 تشرين الأول لافتتاح دورة الألعاب العربية في المدينة الرياضية. توسّط في الأشهر التالية بين شمعون وعبدالناصر على رأس الجمهورية العربية المتحدة، مع اندلاع اشتباكات حدودية لبنانية ـ سورية وضلوع الإستخبارات العسكرية السورية في تهريب أسلحة ومسلحين إلى معارضي شمعون. بعد 41 عاماً من زيارة سعود، زار شقيقه، ولي العهد الأمير عبدالله لبنان، حزيران 1998. ثم كانت زيارة ثانية للمشاركة في القمة العربية الثانية في بيروت، آذار 2002. لكن معظم أبناء عبدالعزيز قبل تبؤوهم العرش زاروا لبنان سنوات طويلة وصيّفوا فيه، وكان أكثرهم تردداً عليه فهد. وحينما توقف عبدالله في صوفر، زائراً لبنان عبر دمشق بطريق البر، أمام فندق مهدّم استعاد ذكريات قديمة.
لم تكن هذه حال فيصل، فلم يضطلع بدور الوسيط. وجد فؤاد شهاب ناصرياً بعد اجتماع الخيمة عام 1959، فابتعد عن لبنان ما خلا مساعدات مالية وأخرى تربوية واجتماعية وخيرية للسنّة اللبنانيين. كان فيصل في المقلب الأميركي مع شاه إيران، ونقيضه في الموقف من إسرائيل، وكان وعبدالناصر في مقلب العداء لإسرائيل، ونقيضه في الموقف من الإتحاد السوفياتي. كان مع الشاه ضد موسكو التي لم يرها إلا ملحدة، ومختلفاً مع عبدالناصر على العقيدة. هو ينادي بالإسلام سبيلاً إلى وحدة العرب، وندّه بالقومية العربية سبيلاً إليها. اختلف الرجلان على لبنان في عقد الستينات: الزعيم المصري اجتذب الشارع السنّي الذي جذب نفسه إلى مساعدات المملكة ومالها لأنها أيضاً مرجع المسلمين، لا قائدتهم. انقسمت زعامة العرب بينهما قبل أن تضرب حرب 1967 عبدالناصر. صعدت المقاومة الفلسطينية، فكان فيصل حضنها السياسي ومموّلها السخي.
منذ قمتي الرياض والقاهرة، تشرين الأول 1976، بات للملكة دور آخر. سلّمت بالجيش السوري في هذا البلد، وسعت إلى ضبط دوره عبر اللجنة العربية الرباعية التي ضمت سفيرها ونظريه الكويتي والمصري وممثل لسوريا محمد الخولي برئاسة الياس سركيس. نيط بها تنفيذ اتفاق القاهرة وجمع سلاح الميليشيات ومساعدة حكم سركيس. لكنها أخفقت قبل أن تنفجر حرب مسيحية ـ سورية عام 1978. سحبت جنودها من قوة الردع العربية وقصرت دورها السعودي على تسديد نفقات هذه القوة، حتى عام 1981 عندما توسّط سعود الفيصل مرتين بين سوريا وبشير الجميل في حربي الأشرفية (1978) وزحلة (1981). أوقف النار بتسوية موقتة انهارت مع الإجتياح الإسرائيلي للبنان السنة التالية. مع انهيار السلطة المركزية لحكم أمين الجميل، بعد حرب الجبل، رعت المملكة حواراً وطنياً في جنيف في تشرين الأول 1983، ثم بعد انتفاضة 6 شباط 1984 جولة أخرى في لوزان في آذار. عمل سفيرها في واشنطن الأمير بندر بن سلطان مع رجل الأعمال رفيق الحريري على تحقيق مصالحة لبنانية ـ لبنانية، وأخرى بين حكم الجميل وسوريا، فحضر المؤتمرين بصفة مراقب وزير الدولة السعودي ابرهيم المسعود. هادنت المملكة سوريا وأقرّت على مضض بوجود جيشها ونفوذها السياسي في لبنان ثمن استعادة استقراره.
قلما قيل إن السعودية كانت ناخباً في الرئاسة اللبنانية. السابقة كان دوراً مستتراً عندما اجتمع وزير خارجيتها سعود الفيصل ببشير الجميل في 30 حزيران 1982 في الطائف، بناء على إصرار الموفد الأميركي فيليب حبيب. دعمت انتخابه في مقابل ضمانه حماية المخيمات الفلسطينية بعد إجلاء مسلحي المنظمات. الدور الثاني كان تكريسها رينه معوّض رئيساً قبل أن ينجز النواب اللبنانيون اتفاق الطائف عام 1989. في أروقة المؤتمر كان ينادى معوّض سلفاً «فخامة الرئيس». في الحقبة السورية بعد انتخاب الياس الهراوي، مرشح دمشق، انحسر دور المملكة. كان على سفرائها أحمد الكحيمي، وفؤاد صادق مفتي (1999 ـ 2004)، وعبدالعزيز خوجة رعاية دور غير مباشر عبر رفيق الحريري رجلها النافذ، من غير اصطدامها بسوريا التي أحكمت سيطرتها على لبنان في عهدي الهراوي ثم خلفه إميل لحود (1998). وعلى غرار دور مماثل للعويني، الـــــــــواسع الثراء، الذي أضحى عام 1947 ممثلاً تجــــــــارياً وراعياً لمصالح المملكة في لبنان بتــــــــعيين مباشر من عبدالعزيز وصلة اتصـــال الشــــــــــيخ بشارة ورياض الصلح بها، فقـــــــــاداه إلى رئاسة الحكومة، جعلت العلاقــــــــــة الوطيدة بين الحريري وفهد ولياً للعهد وملكاً ـ إلى ثروته ـ معبراً إلى رئاسة الحكومة. كانا رجلا السعودية القويين.
وما خبره أحد أبرز سفرائها في لبنان، علي الشاعر(1977 ـ 1984)، استرجع الخوجة نظيره مع تحوّلات مماثلة. جمعتهما ثوابت الديبلوماسية السعودية: دعم الشرعية الدستورية وإبقاء قنوات الإتصال مع كل الأفرقاء أياً بلغت القطيعة بينهم. دعم الشاعر حكم سركيس وأقلقته علاقة بشير بإسرائيل ساعياً إلى استعادته إلى الحل العربي. كذلك دعم خوجة حكومة فؤاد السنيورة من غير أن ينقض شرعية لحود، وأقلقته علاقة حزب الله بإيران بسبب قلق المملكة من مشروعها العقائدي والسياسي، ورغبتها في إبقاء الحزب في المعادلة اللبنانية. كانت سوريا وبشير والحزب أقسى تجارب المملكة في لبنان.
بانقضاء 40 عاماً على اعترافها باستقلال لبنان، نيسان 1944، شهدت إحراق قنصليتها في بيروت بعد انتفاضة 6 شباط 1984 على يد حزب الله. أقفلت وذهب أحمد الكحيمي، سفيرها الجديد قبل شهر، إلى دمشق لتسيير المعاملات هناك حتى رجوعها إلى لبنان في آب 1994. مذذاك، في الحقبة السورية في لبنان، أعاد الكحيمي، المولع بعلم الأنساب وتاريخ المنطقة وشعوبها والديبلوماسي الواسع الخبرة في شؤون الأردن والعراق وسوريا التي عمل فيها، المملكة إلى لبنان، وإلى دورها التقليدي فيه. فتح قنوات اتصالات مع الأفرقاء اللبنانيين جميعاً، ما خلا حزب الله، وقد حفظت المملكة عنه صورة قاتمة. في احتفال في سفارة إيران في بيروت، ساء السفير العائد أن يسمع من بعض الحاضرين كلاماً ضد المملكة، في حمأة حملات ساقها الحزب ضدها. قصد الكحيمي السيد محمد حسين فضل الله وسأل ما يقتضي عمله لوقف التعرّض للمملكة «لأن الملك لا يمكنه السكوت عنها». طلب فضل الله استمهاله بعض الوقت. خابره قائلاً: «هل تقدم على ما قد أطلبه منك؟». ردّ السفير بالإيجاب. قال فضل الله: «إذهب واشرب قهوة لدى السيد حسن نصرالله».
من دون مراجعته حكومته، زار الكحيمي الأمين العام لحزب الله في أول اتصال بين المملكة والتنظيم الذي كان طُبع بالأصولية، وبأنه أداة إيرانية. كان لقاء المصارحة طويلاً عن مكامن خلاف الطرفين. تدريجاً تحسّنت العلاقة مع تسهيل المملكة سفر وفد من الحزب إلى الحج الذي تزامن وذلك اللقاء.
في تجربتي الشاعر وخوجة ظلت سوريا، التي طاردت باستمرار الدور السعودي في لبنان، هي العقبة. وبانسحابها منه، في نيسان 2005، بات الحضور السعودي مباشراً وصريحاً. أكثر قدرة في الدور الديبلوماسي واستخدام المساعدة المالية، فلا تستثمر دمشق كالسابق الأول لتكريس شرعية بقائها في لبنان، ولا تقتطع من الثانية الحصة الحتمية كي يبقى لبنان مستقراً. على نحو ما أرساه الملك الأب، تحافظ على موقعها: لا تتدخّل في شؤون داخلية، تحاور الجميع من غير أن تكون طرفاً. هي أيضاً مواصفات سفرائها المتعاقبين. ويكاد خوجة، استاذ الكيمياء والجيولوجيا، يختصر في ذاته خبرات السنوات الـ63 من علاقات البلدين ومواهب سلفيه. وشأنهما أجاد تركيب المعادلة، وتنبّه سلفاً لحركة الأرض تحت قدميه عندما اندلعت شرارة نزاع مذهبي سني ـ شيعي: متحفظ، حذر، صبور. آخذاً بسياسة الباب المفتوح، ولا يكف عن التعلق بالحوار.


خوجة: صفير المعني الأول بالرئاسة


  • تتصرف المملكة تقليدياً ودائماً مع لبنان كأنها مرجعية وليست طرفاً، لا تتدخل في التفاصيل والشؤون الداخلية. ألا يزال هذا الدور هو نفسه في الوقت الحاضر؟
    ــــــ نعم، لأن المملكة العربية السعودية تريد أن تكون مرجعية وهي ليست طرفاً ولا مع طرف دون آخر في لبنان. وهذا الكلام ردّدته أكثر من مرة، لأنه ليس من مصلحة المملكة أن تكون طرفاً مع أحد ضد آخر. إن أي دولة تضع نفسها طرفاً ستفقد دونما شك موضوعيتها ومرجعيتها، ونحن في المملكة نعرف دورنا الإقليمي تماماً وكذلك دورنا الدولي. وعلاقاتنا، سواء بدول الجوار أو المنطقة أو العالم، هي دائماً ذات تميّز، ومع الزمن أصبحت راسخة وأصبحت مرجعاً. لذلك لا تخشى المملكة التعامل مع أحد، وحينما تتعامل مع بلد كلبنان بتركيبته المتميّزة الخاصة به تعي تماماً الوضع الخاص في لبنان. نتعامل دائماً مع لبنان واللبنانيين من هذا المنطلق. وحين نقول إننا على مسافة واحدة من الجميع، نتكلم بصدق، وقد أثبتت التجربة أننا كنا ولا نزال دائماً على مسافة واحدة من الجميع. حتى عندما يكون لنا رأي محدّد، فإننا نقوله بصراحة وشجاعة وإن لم يعجب طرفاً من الأطراف.

  • ما هو سرّ أن اللبنانيين لا يقبلون إلاّ بالاحتكام إلى المملكة، وهي مسألة تاريخية وتقليدية؟
    ــــــ هذا هو السرّ: لأن المملكة مرجعية وليست طرفاً، بل هي مع لبنان وجميع اللبنانيين. ليس لها أطماع ولا رغبات شخصية في أي بلد كان. من مصلحتنا أن يكون لبنان موحّداً، وأن يكون الموحِّد بين أبنائه من ضمن هذه التركيبة المتميّزة التي لا توجد إلاّ فيه والتي تجعل منه أنموذجاً ومثالاً للتعايش الإنساني الحضاري الحقيقي، ليس للبلاد العربية فحسب بل للعالم والإنسانية ككل. كذلك نحن نحرص على وجوده ضمن هذه اللوحة الفسيفسائية الإنسانية الرائعة. ونحن في المملكة نعتقد أن أي خلل يحصل في هذا البلد يؤثر بلا شك علينا لأننا منطقة واحدة وجسد واحد. وإذا أصيب جزء من هذا الجسم أصيبت الأجزاء الأخرى فيه. وكذلك إذا تعرّض لبنان لأي مشكلة أو تطرّف أو بيئة أخرى نشأت فيه خلافاً لطبيعة التركيبة اللبنانية، فإن ذلك يؤثر أيضاً على بقية دول المنطقة، وهذا ما لا نريده.

  • بسبب ذلك خشيتم من فتنة سنية ــــــ شيعية في لبنان؟
    ــــــ طبعاً هذا ما أعنيه. إذا حصل ذلك فستسقط التجربة اللبنانية الفريدة وتنتقل عدواها إلى بقية الدول المجاورة دون استثناء. وهذا ما لا نريده. بل نريد الاستقرار للمنطقة لأن أمامنا تحديات كبيرة تتعلق بالاقتصاد والنمو والبناء. تريد المملكة لكل دول المنطقة أن تجتاز مشكلاتها ومحنها. لا يمكننا مواجهة العالم وهذه التحديات بالسلاح، بل بوحدتنا بعضنا مع بعض وتعالينا عن العرقيات والمذاهب والطائفية.

  • أنت تراقب وتتابع عن كثب الوضع اللبناني الذي هو اليوم على أهبة الانتقال، وإن من دون حل، من أزمة حول الحكومة والمحكمة الدولية إلى أزمة حول رئاسة الجمهورية؟
    ــــــ أنا سفير، تحدثت قبل قليل عن المرجعية والحياد. وهذا ينطبق أيضاً على موضوع رئاسة الجمهورية. أريد من اللبنانيين ألاّ يضعوا مشكلاتهم الرئيسية اللبنانية ومصيرهم في أيد أخرى أو عند دولة أخرى أياً تكن. طبعاً هناك دول محبّة للبنان بلا أدنى شك، ولكن هناك دول أخرى قد تكون لها مصلحتها الخاصة وأهدافها. لذلك أؤمن بأن معالجة هذه المواضيع تكون لبنانية، ويجب أن تكون كذلك. لا أحبّذ أن يكون لي رأي أو أن أقوله في هذا الأمر. على أي أساس أدلي برأيي؟ ولماذا؟ وما شأني في القول إن هذا الرئيس أفضل أو ذاك؟ هذا شأن اللبنانيين وحدهم وهم من يقررون رئيسهم. وأقول هذا الكلام بإيمان كبير. انتخابات الرئاسة يجب أن تكون لبنانية صرفة.

  • لكن اللبنانيين هم الذين يورّطون أحياناً الدول والسفراء في أزماتهم كما حصل أخيراً في توريط المملكة أو إدخالها طرفاً في الخلاف حول الحكومة والمحكمة الدولية، فماذا يحول دون تكرار الأمر في موضوع الانتخابات الرئاسية؟
    ــــــ هذا أمر مختلف. هناك بلد معطّل واعتصام في وسط المدينة شلّ الوسط التجاري والحال الاقتصادية وأثّر في الشعب اللبناني بمجمله. كثيرون من اللبنانيين فقدوا وظائفهم أو هاجروا. هذا موضوع يمسّنا جميعاً كعرب. كل الدول العربية متأثرة بما يجري اليوم في لبنان، ولا نستطيع إغماض عيوننا عن هذه المشكلة التي تصيب بلداً عزيزاً علينا، بل أكاد أقول كأن اللبنانيين ينتحرون ويجعلون بلدهم ينتحر معهم أيضاً. ما هو ذنب لبنان كي يتدهور اقتصادياً هكذا؟ الجامعة العربية ونحن، وأي دولة عربية أخرى أو صديقة لا تعتبر نفسها متورطة حينما تناشد اللبنانيين الجلوس معاً. نحن في المملكة لم نفرض حلنا ولا رأينا، بل دعونا اللبنانيين إلى الحوار والتفاهم في ما بينهم وفق أسس جدية وتسوية مواضيع الاختلاف.

  • إذا لمست، مثلاً، أن كل طرف لبناني يحاول تهديد الآخر بخيارات من شأنها أن تؤدي إلى تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية، ألا تشعر المملكة هنا بأن من واجبها كمرجعية وكراعية التدخل في هذا الموضوع؟
    ــــــ المملكة قلقة جداً على الوضع في لبنان، وكذلك هي على اتصال بجميع اللبنانيين وتدعوهم إلى حل مشكلاتهم بأنفسهم والاتفاق لأن ثمة استحقاقات كثيرة داهمة منها الاستحقاق الرئاسي. نحن بالفعل قلقون للغاية، لكننا لا نستطيع فرض رأينا أو أن نقول هذا المرشح يهمنا أمره. ليس لنا مرشح على الإطلاق ولا توجّه لدينا بتاتاً للتدخل في انتخابات الرئاسة اللبنانية. هذا موضوع محض لبناني. هناك تقليد مسيحي في التعاطي مع الاستحقاق الرئاسي. بل تقليد أكبر هو أن البطريرك الماروني هو المعني الأول بالرئاسة اللبنانية وهو الذي يقرّر ذلك. لهذا تكلمت عن التقاليد المرافقة للانتخابات الرئاسية اللبنانية. وهي شؤون لبنانية داخلية، يجب عدم التدخل فيها ولا السماح لأحد، أياً يكن، بالتدخل فيها.

  • وإذا حاولت دولة ما التدخل في الاستحقاق الرئاسي اللبناني، فهل يمكن السعودية الاضطلاع بدور لمنع هذا التدخل، على الأقل لحماية اللبنانيين من التدخل في شؤونهم؟
    ـــ لا يستطيع منع التدخل الأجنبي إلا اللبنانيون أنفسهم ووحدهم إذا كانوا متفقين وموحّدي الرأي والموقف والتوجّه. وإذا كانوا مخلصين ومصممين على حماية بلدهم، فعليهم الاتفاق أولاً وحماية أنفسهم. وإذا نشأ خلاف داخلي أو اختلاف أو تشتت حتى لا أقول أكثر من ذلك، فإن ثمة خطراً داهماً وكبيراً جداً سيصيب بلدهم. لا يحمي البلد.

  • تقول إن المملكة ليست ناخباً ولا تدعم مرشحاً وليس لها مرشح. لكن أي مواصفات تراها في الرئيس اللبناني المقبل على المستويين المحلي والإقليمي؟
    ــــــ أن يكون الرئيس المقبل لكل اللبنانيين ويحمي لبنان. ولا أستطيع أن أتحدث عن مواصفات الرئيس المقبل لأني لست لبنانياً ولا شأن للمملكة في استحقاق لبناني بحت. لن أزيد على ما حددته وإلا أكون طرفاً وهذا ما لا نريده. وما أقوله عن رئيس الجمهورية، أقوله عن رئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة، وهو أن يكون للبنانيين جميعاً.
    سوريا

  • من ضمن ذلك أيضاً أن يكون قادراً على الحوار مع سوريا؟
    ــــــ سوريا دولة جارة للبنان، وهي دولة عربية ولها حدود مشتركة مع لبنان، وهي الدولة العربية الوحيدة التي للبنان حدود معها. ومن الطبيعي إذاً ليس بالنسبة إلى رئيس الجمهورية، بل أيضاً إلى رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، أن تكون هناك علاقات مميزة مع سوريا.

  • هل تخشى حصول فراغ دستوري؟
    ــــــ طبعاً إذا لم يتم الاتفاق وشعر الجميع بالخطورة الكبيرة، فالاحتمال حقيقي جداً بحصول فراغ دستوري. لذلك نحن، أصدقاء لبنان، نحاول حضّ اللبنانيين جميعاً على الإسراع في الحل قبل أن يحين أوان الاستحقاقات الأخرى.

  • يتردد أن بعض الأفرقاء لا يصغي إلى رأي المملكة ويتصرّف خارج نطاق نصيحتها، وهذا الأمر يعرقل جهودها؟
    ــــــ كل طرف لبناني حرّ في ما يقرّر ويتصرّف ويتخذ من مواقف، ونحن لا نرغم أحداً على موقف. نحن نريد الخير لهم وإذا رفضوا فهم أحرار.

  • لكن البعض يظن أن تحسين العلاقات السعودية ــــــ السورية يؤدي إلى تهدئة في الوضع اللبناني وإلى فتح آفاق الحل، والرئيس بري يشدد كثيراً على هذا الجانب؟
    ــــــ مبدئياً كلما كانت علاقات الدول العربية بعضها ببعض قوية، ساعدت على حل كل مشكلات المنطقة وليس لبنان وحده أو أي بلد أو نقطة ما من هذه الدول.

  • إلاّ أن موضوع سوريا وعلاقتها بلبنان يختلف عن علاقات باقي الدول العربية بعضها ببعض. هناك حال عدائية بين فريق من اللبنانيين ودمشق.
    ــــــ لا أعتقد أن هناك حالاً عدائية بين سوريا ولبنان، ولا حتى بين فريق من اللبنانيين وسوريا. ما يجمع البلدين تاريخي وثقافي وجغرافي واجتماعي، وهي علاقة أزلية وستكون أبدية. أما إذا كان هناك خلاف سياسي فإنه أمر طبيعي يحصل داخل البلد الواحد ويمكن تذليله. الخلاف السياسي شيء والعداء شيء آخر، ولا أظن أن هناك عداءً بين فريق لبناني وسوريا.

  • لكن هناك أفرقاء لبنانيين ينادون بإسقاط النظام السوري؟
    ــــــ هذا أمر عائد إلى هؤلاء ولا علاقة لي بما يقولون. هم أحرار في ما يقولون، وهذا أمر عائد إليهم هم. أنا سفير المملكة العربية السعودية.

  • بسبب ذلك تحركت المملكة للحؤول دون فتنة سنية ــــــ شيعية في لبنان؟
    ــــــ الحمد لله أن تحركاتنا في المنطقة ومع الشقيقة إيران أحبطت هذه الفتنة، ونحن لن نسمح بأن تكون هناك فتنة مذهبية لا في لبنان ولا في أي مكان في الدنيا، لأن ذلك أمر معيب، وهذا ما يجب ألاّ نسمح به نحن ولا أي دولة في المنطقة، لأن ذلك ضد حياتنا المشتركة. نحن في المنطقة نعيش أدياناً مختلفة. وإحداث فتنة مذهبية هو خيانة عظمى.

  • إذاً لن يتكرر ما حصل في لبنان قبل أشهر من نزاع مذهبي؟
    ــــــ لا، لن يتكرر ذلك أبداً. ومن يسعَ إلى ذلك فهو كمَن يلعب بالنار وبافتعال خطر كبير، وهذا ما لن نسمح بحدوثه في لبنان ولا في أي مكان آخر. وأرجو أن يعي الجميع هذا الأمر.

  • هل أنت خائف على الاستحقاق الرئاسي في لبنان؟
    ــــــ لا أستطيع التكلم في هذا الموضوع، لكنني خائف لا على استحقاق واحد بل على استحقاقات كثيرة في لبنان، وهي لن يتم تجاوزها إلاّ بوحدة اللبنانيين وتعاليهم عن خلافاتهم وإنهاء مشكلاتهم في ما بينهم.

  • تتوقع تفاهماً لبنانياً على الرئاسة؟
    ــــــ يجب أن يكون هناك توافق على انتخابات الرئاسة.

  • هل تؤيد بذلك رئيساً توافقياً للبنان؟
    ــــــ لا أستطيع أن أبدي رأيي في هذا الموضوع. هذا شأن لبناني بحت، وليس في وسعي أن أحل محل اللبنانيين الذين لهم وحدهم الخيار.

  • أيّاً يكن هذا الخيار؟
    ــــــ نعم، أيّاً يكن هذا الخيار. ويجب ألاّ يسمح اللبنانيون لأي قوة أو طرف في الخارج بالتدخل في شؤونهم الداخلية. أنا أخاطب اللبنانيين جميعاً والأطراف جميعاً. يجب أن يجلسوا إلى طاولة الحوار معاً لأنهم يعيشون حياة مشتركة.

    يقارب السفير عبدالعزيز خوجة دوره في لبنان على طريقة اختصاصه العلمي، وهو دكتور في الكيمياء: بناء المعادلة من مكونات متجانسة، أو إيجاد وسيلة تؤالف بين أضدادها كي تكون قابلة للتطبيق. النواة الصلبة للمعادلة اللبنانية في ديبلوماسيته تكمن في استمرار الإتصال بين الأضداد اللبنانيين حتى يوصلهم حوارهم إلى حل، واستبعاد العناصر النافرة غير اللبنانية، القريبة والبعيدة