نقولا ناصيف
للمرة الثانية، بعد مؤتمره الصحافي في 20 آذار، فتح رئيس المجلس نبيه بري معركة الرئاسة من أبوابها العريضة الثلاثة، بعدما كشف النائب علي بزي السبت أن بري سيوجه دعوة إلى الهيئة العامة للمجلس لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في 25 أيلول، غداة بدء المهلة الدستورية:
ـــ تأكيده أنه سيستخدم صلاحياته الدستورية المنصوص عليها في المادة 73 كاملة وبلا إبطاء.
ـــــــ تشديده على أن نصاب افتتاح جلسة انتخاب الرئيس الجديد هو ثلثا عدد النواب (86 نائباً).
ـــــــ شق الطريق أمام معركة الإستحقاق الذي يقتضي توافقاً داخلياً عليه، أو دفع البلاد إلى فراغ دستوري.
وتبدو الأبواب العريضة الثلاثة هذه منوطة بدور رئيس المجلس، مع أن 25 أيلول لا يعدو كونه موعداً افتراضياً لاستحقاق غامض ومكلف لا يزال بعيداً. إلا أنه رمى إلى تسجيل بضعة ملاحظات:
أولاها أن بري، رئيساً للمجلس، لن يكون جزءاً من أي موقف يرمي إلى تعطيل جلسة الإنتخاب، أو إحداث فراغ دستوري، أو نشوء حكومتين تضع البلاد على طريق المجهول. بل سيلتزم الصلاحيات التي فوّضه إياها الدستور لرعاية آلية انتخاب الرئيس الجديد في المهلة الدستورية، بدءاً من توجيه الدعوة إلى جلسة الإنتخاب. تالياً فإن افتراض بري 25 أيلول موعداً لتوجيه الدعوة يعبّر عن استعداده للإستحقاق منذ الأيام الأولى للمهلة الدستورية.
ثانيها رسمه إطاراً جديداً للمواجهة بين المعارضة وقوى 14 آذار، هو أن معادلة الصراع تبدّلت تماماً. بذلك يلاقي بري، وعلى نحو غير مباشر، ما كان قاله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله قبل أسبوعين، من أنه طوى صفحة المطالبة بتأليف حكومة جديدة. ولا يبتعد بري كثيراً عن هذا الموقف، وإن بدا في الظاهر أنه لا يزال يأمل في أن تجري الغالبية مراجعة لمواقفها، ومناقشة الحل الذي كان طرحه للتسوية بين الطرفين.
ثالثها ربطه موعد الجلسة بتأكيد النصاب المطلوب لافتتاحها، أي ثلثي النواب، يدمج الآلية الدستورية لانتخاب الرئيس الجديد بالتفاهم السياسي. الأمر الذي يجعل الإستحقاق مشكلة سياسية بمقدار ما هي دستورية.
لكن موقف بري من تحديد 25 أيلول موعداً افتراضياً لانتخاب الرئيس الجديد يشير كذلك إلى أن دعوته الهيئة العامة إلى جلسة الإنتخاب هي صلاحية مطلقة له غير قابلة للإجتهاد. وهو يستخدمها لمرة واحدة، على أن يحدّد في ما بعد أكثر من موعد، إذا اقتضى الأمر، لجلسة الإنتخاب في حال تعذّر التئام البرلمان بسبب عدم اكتمال نصابه القانوني. على أن تلكوء رئيس المجلس في توجيه الدعوة طوال المهلة الدستورية، يحتم على المجلس عندئذ الإنعقاد حكماً من دون دعوة رئيسه في اليوم العاشر الذي يسبق نهاية ولاية الرئيس الحالي، أي في 14 تشرين الثاني. وهاتان الحالتان لا تُجرّد رئيس المجلس من صلاحية ترؤسه جلسة الإنتخاب. ذلك أن اليوم العاشر يُفقده امتياز توجيه الدعوة، لا دوره الدائم الذي هو رئيس المجلس.
وعلى وفرة السجالات المحيطة بالنصاب الدستوري لجلسة انتخاب الرئيس الجديد، ولا تعدو كونها إلا جزءاً من التجاذب السياسي، فإن تحديد هذا النصاب يظل منوطاً برئيس المجلس على رأس هيئة مكتب المجلس التي تنظر في المشكلة. على الأقل بشهادتي استحقاقي 1976 و1982. وهما الحالتان الوحيدتان اللتان شهدتا جدلاً في تحديد النصاب الدستوري لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية، بسبب اقتران الأمر بتناقص تدريجي في عدد النواب. الأمر الذي أفضى مع تزايد الوفيات إلى استحالة التئام البرلمان بالنصاب الموصوف (66 نائباً لمجلس النواب الـ99). واقتصر هذا الجدل على سني الحرب اللبنانية.
في انتخابات 1976 اجتمعت هيئة مكتب المجلس ولجنة الإدارة والعدل برئاسة رئيسه آنذاك كامل الأسعد في 5 أيار 1976، وحدّدتا نصاب الثلثين لالتئام جلسة انتخاب الرئيس الجديد المقررة بعد ثلاثة أيام. ورغم أن نائبين كانا قد توفيا عندما دعي المجلس إلى جلسة الإنتخاب هما مرشد الصمد عام 1974 والرئيس صبري حمادة قبل ثلاثة أشهر من هذه الجلسة، تمسك الأسعد وهيئة مكتب المجلس ولجنة الإدارة بنصاب الثلثين فظل 66 نائباً من عدد النواب الـ99 الذين كان يتألف منهم المجلس. الأمر نفسه تكرّر في اجتماع هيئة مكتب المجلس ولجنتي الإدارة والعدل والنظام الداخلي في 16 أب 1982 عندما دعت إلى انتخاب الرئيس الجديد في 19 منه، واحتسبت نصاب الإنعقاد ثلثي النواب، مع الأخذ في الإعتبار أن سبعة نواب كانوا قد توفوا حتى ذلك اليوم. على أن هيئة مكتب المجلس ولجنتي الإدارة والعدل والنظام الداخلي برئاسة الأسعد ارتأت احتساب عدد النواب الأحياء الذين يتكوّن منه البرلمان، وهو 92 نائباً. بحيث يصبح نصاب الثلثين 62 نائباً. في انتخابات 1976 فاز الرئيس الياس سركيس بالأكثرية المطلقة في الدورة الثانية للإقتراع بـ66 صوتاً لتعذّر حصوله في الدورة الأولى على ثلثي الأصوات، فكان أن حصل على 63 صوتاً من مجموع النواب الـ 67 الذين افتتحت بهم الجلسة. وفي انتخابات 1982 فاز الرئيس بشير الجميل من الدورة الثانية للإقتراع بالأكثرية المطلقة بـ 57 صوتاً بعدما كان نال في الدورة الأولى 58 صوتاً لم تكفه للفوز. أما النواب الحاضرون فكانوا نصاب الثلثين.
وفي واقع الأمر استمرت القاعدة التي أرساها الأسعد في ما بعد في انتخابات 1989 إلى أن أجريت أول انتخابات نيابية عامة بعد الحرب عام 1992. فالمجلس الذي انتخب الرئيس رينه معوّض كان قد أضحى عدد أعضائه 73 نائباً بوفاة 26. وبسبب الظروف الإستثنائية آنذاك، التي رافقت استمرار الحرب ووجود العماد ميشال عون على رأس حكومة عسكرية انتقالية في قصر بعبدا والتوصل إلى اتفاق الطائف، لم تلتئم هيئة مكتب المجلس برئاسة رئيس المجلس حسين الحسيني لتحديد نصاب جلسة انتخاب رئيس للمرة الأولى منذ الفراغ الدستوري عام 1988. فظلت قاعدة الأسعد سارية المفعول: احتساب ثلثي النواب الأحياء. حضر جلسة انتخاب معوض 58 نائباً وتغيّب 15، فيما نصاب الثلثين هو 48 نائباً كان متوفراً، وفاز بالأكثرية المطلقة من الدورة الثانية للإقتراع بـ52 صوتاً بعدما كان نال في الدورة الأولى 36 صوتاً هي دون نصاب الثلثين. أما الرئيس الياس الهراوي، وكان عدد النواب نقص واحداً بانتخاب معوض فاغتياله، فانتخب من الدورة الثانية للإقتراع بغالبية 47 صوتاً لتعذّر حصوله في الدورة الأولى على الثلثين الذي هو 48 صوتاً من 52 نائباً حضروا الجلسة، أي ما يتجاوز نصاب الثلثين. وغاب 20 نائباً.
ولأن رئيس المجلس هو صاحب الكلمة في تحديد النصاب القانوني مع هيئة مكتب المجلس، يكفي القول إن هذه، في غالبية أعضائها الحاليين من قوى 14 آذار (نائب الرئيس فريد مكاري والنواب أيمن شقير وجواد بولس ومحمد كبارة وسيرج طورسركيسيان، إلى عضو وحيد من المعارضة هو النائب ميشال موسى) تمثل سبباً جدياً لافتعال مشكلة بينهم وبري حيال اللغط والإنقسام الدائرين حول النصاب، مع أن القاعدة والعرف والقانون والسابقة قالت بأن الكلمة هي لرئيس المجلس.