strong>ربى أبو عمّو
  • نادر سراج: تبقى هذه الظاهرة إيجابية إلى أن تتخذ البعد الطائفي

    يبرع اللبنانيون في ابتكار نكاتهم. يستوحونها
    من مصطلحات السياسة المتداولة، الممجوجة في وسائل الإعلام. يسمعونها، يفهمونها مثلما وردت، ثم يفصّلونها على مقاس أفكارهم ومشاكلهم اليومية في الجامعة، في المنزل، في المقهى،
    وحتى لجذب فتاة


    يَلفت رامي نظر الجميع باستعارته لمصطلحات معقّدة في المواضيع التي يناقشها ورفاقه، بينما أغلبها لا يتطلب ذلك. يعتقدون أنه لا يتصنّعها، بل يطلقها بعفوية، هو الذي تمثّل تفاصيل الحياة بالنسبة إليه مجموعة من «الاشكاليات». لذلك لم يترددوا لحظة واحدة في كتابة عبارة «كلّ إشكالية وأنت بخير» على قالب الحلوى الذي أعدّوه له في عيد ميلاده الأخير.
    رامي ليس وحيداً في استخدامه لهذا النوع من المصطلحات في أبسط تفاصيل الحياة اليومية. عدد كبير من الشباب اللبناني اليوم يستعمل بعض المصطلحات العصيّة على فهم الآخرين، مثل الـ«أوليغارشية» و«البراغماتية»، و«الشوفينية» و«البروليتاريا»...الخ. يفعلون ذلك كأنّ بهم حاجة لأن يثبتوا لمحيطهم معرفتهم بالمفردات الصعبة والمصطلحات الفلسفية. أو ربما كانوا يحاولون لفت الانتباه، على الرغم من أن جزءاً منهم لا يفقه المعنى الحقيقي لما يردّده من عبارات.
    يبتسم طارق حين يطرح عليه السؤال عن المصطلحات «الكبيرة» التي تلفت انتباهه يومياً وهو المتهم من أصدقائه بـ«الـشوفيني اللبناني» بسبب شخصيته المنعزلة واللامبالية. يقول إنه «يقع» بالصدفة على مصطلحات سياسية كلما وقع في لبنان حدث مأساوي ،فيطلق مجموعة السباب التي عرفها في حياته من دون توقف، وبرأيه هي الأكثر تعبيراً، وهو يتفنن في استعمالها.
    لم يسمع حتى اليوم بالـ«غوغائية» التي يتداولها بشكل أساسي الصحافيون والمحللون السياسيون، إلا أنها تذكّره بكلمة ضوضاء، وقد استنتج أنها على وزن غوغاء. وبسبب هذه «الغوغاء» التي تشهدها الساحة اللبنانية نتيجة التوترات السياسية وتأزم الوضع الداخلي، قرر طارق «الارتهان الى الخارج»، أي السفر، كما يحلو له استخدام هذه العبارة الشائعة.
    استطاع الشباب اللبناني بحسه الفكاهي إضفاء نكهة على المصطلحات السياسية التي يتسم معظمها بالجمود. ينفرد بعضهم بتفسيره الخاص لها، أمّا بعضهم الآخر فيحيلها للمزاح والتودد لوجهات النظر المختلفة. لكن يبقى الربط بينها وبين الواقع اللبناني السيئ في طبيعة الحال، مخيّماً على الجميع. الوحدة الوطنية، الطبخة السياسية، الديموقراطية، العلمانية، الإرهاب والكباب، التطرف، الحوار، الفدرالية والكونفدرالية...الخ.
    يستشهد حسن بكلمة «غوغائية» لوصف الوضع الفوضوي في لبنان، ويضيف إليه المثل الشعبي: «كل من إيدو إلو». وإذا كان الحوار هو الحل الوحيد لتفادي المزيد من الغوغائية، بحسب المنطق، يسارع حسن للمقارنة بين الحمار والحوار، فلا يجد بينهما إلا فارقاً واحداً: حرف الميم. ويشبّه مصطلح الديموقراطية اللبنانية بالـ«الغول والعنقاء»، أما «الديموقراطية التوافقية» فتوازي بالنسبة له كذبة «الوحدة الوطنية» وسبحة مصطلحات السلم الأهلي التي هي حصراً للبنانيين. وحين تصل العلمانية الى مسمعه يتنهد بحسرة، ويبدأ بغناء أوبريت الحلم العربي: «الحلم ما هو مستحيل.. ما دام تحقيقه مباح»، وهل من امكان لبناء دولة في لبنانأما عماد فيكتفي بعبارة واحدة للتعليق: «كل المصطلحات السياسية والاعلامية قبيحة. أريد أن أعرف كيف بدي آكل مش أطبخ سياسة وبحص». عماد مواطن، يتسكع يومياً بين مقاهي شارع الحمرا «للحوار والتسوية».
    لرشيد همة تحليلية عالية. غالباًً ما يشعر بنوع من الاهانة حين توجه اليه التهمة بأنه كان غوغائياً في حديثه، حتى ولو كان يتحدث في أمور عادية. لكنه يملك العذر لإحساسه هذا، إذ إنه يفسر الغوغائية على أنها تكرار لموضوع معين، وتذكره بـ«حاشية وليد جنبلاط ووائل أبو فاعور الذي يؤكد الغوغائية بتكراره لمواقف جنبلاط». أما «الاشكالية» الأكبر في حياته فهي مجرد وجوده في هذا البلد. وعلى طاولة الحوار، التي يراها بمثابة آلة كوميدية تشبه الأدوات التي تستخدم في المسرح الإيمائي، تعد الطبخة التي ينقصها الملح. يرى رشيد أن «المتطرّف» هو من يتزوج أربعاً، أو يعاشر أكثر من فتاة. هكذا يصف صديقه الذي يخرج مع أكثر من فتاة في وقت واحد، وهو سيأكل «الإرهاب والكباب»، ويرش «ملح الدروز» عليها، فبدونه لا يمكن أن تنضج أي طبخة.
    رشيد يمكنه أن يروي قصة كاملة قائمة على المصطلحات السياسية المتداولة، يقول: «يعاني صديقي «انحرافاً يمينياً» في مشاعره وقد نصحته بالأكل من طبخة نبيه بري، لأن والدته لم تطبخ في ذلك اليوم... كانت منهمكة في إقناع قريبها بالجلوس إلى طاولة حوار قبل اللجوء إلى الطلاق. الطاولة ذاتها تجلس إليها الحماة والكنّة، وغالباً ما تستعصي مشاكلهم على من هم في الداخل، وهو ما يتطلب الاستعانة بوصايات الخارج ودموقراطياته، أي أفراد العائلة، واذا اتسعت رقعة العراك فقد يستدعي الأمر استصدار قرار دولي فتتدخل القوات متعددة الجنسيات أي كبار العائلة ويفصلون في الأمر. وبالطبع، يجب معالجة الموضوع من كل جوانبه، حتى لا يتسرب بعض البحص».
    تطويع المصطلحات، ونقلها من معناها الحقيقي أو العلمي إلى «الحالة الشعبية»، ليس ظاهرة جديدة. إذ واكبت المجتمع اللبناني تحوّلات سياسية عدة، قبل الـ1975 وبعدها، أدت إلى تواصل الشباب اللبناني مع المصطلحات الاعلامية على وجه الخصوص.
    وقد جمع أستاذ الألسنية في الجامعة اللبنانية الدكتور نادر سراج، بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، بعض مفردات الغزل عند الشباب. ومن جملة ما لاحظه استخدام تعابير شبه حربية، نتيجةً طبيعية لحالة النزاع الاهلي وخطوط التماس الملونة بتعابير عسكرية محضة.
    يقول سراج إن هذه المصطلحات استخدمت للتعبير عن المديح والاعجاب، السخرية والذم، التودد والتحقير وغيرها. «على سبيل المثال، كان بعض الشباب يستخدمون تعبير «حارقة وخارقة» التي تقال لفتاة شديدة الجمال، في اشارة إلى المدلول الحربي للرصاصة. إضافة إلى عبارات مثل «حواجبك متاريس الجبهات»، و«حاملة الطائرات» التي عَنَت وقتها صدر الفتاة الكبير،«جمالك ارهابي»، «فمك مخزن ذخيرة»، وتقال للفتاة البشعة».
    وفي الفترة التي عاش فيها لبنان هدوءاً على المستوى السياسي، خفّت درجة تماهي الشباب مع المصطلحات. هذا الهدوء النسبي، أنهته حادثة استشهاد الرئيس رفيق الحريري، التي أدت إلى انقسام البلد بين حركتي 8 و14 آذار (الموالاة والمعارضة) ومع تبدل الأدوار في الفترة اللاحقة.
    يشير الدكتور سراج إلى وجود مرجعية للشعار أو المصطلح السياسي «وهناك ما يسمى المعنى القاموسي للمصطلح، في مقابل المعنى الوجداني. فالمعنى القاموسي، يصنّف لنا المصطلح ضمن التعريفات التي يتم التوافق عليها مثل «الوحدة الوطنية» على سبيل المثال». أما المعنى الوجداني، فيفسره سراج على أنه «نوع من انزياح أو تعديل للمرجعية، يقوم به مستخدم اللغة أو المتلقي أو جمهور الشباب الأقدر على تطويع اللغة وتعديلها واستخدامها لأهداف تواصلية جديدة. أي إن الشاب يتلقى المصطلح السياسي من مراجعه الاساسية ويعيد توليفه شكلاً ومضموناً بدلالات جديدة حسب اللحظة التعبيرية المعينة لديه».
    وتستخدم هذه المصطلحات للتعبير عن استحسان، انتماء، مؤازرة، تضامن، تجريح، موقف مسبق من الآخر: «هي عبارة عن لغة جارية، متوافق عليها، ويوجد مستخدموها مدوّنة لغوية توازي لديهم العالم الحقيقي للدلالات».
    ويمكن القول بحسب سراج، إن الاصغاء الى هذه المصطلحات، ومتابعة الفضائيات الكثيرة، والانتماء السياسي، وقابلية التسييس عند الفرد بمختلف اشكالها ودرجاتها، كل هذه العوامل تساهم في ملاحظة التعبير الصائب وأخذه من المشهد الاعلامي والسياسي واستخدامه في يومياتنا. «... وكأن الشاب اللبناني يريد أن يثبت انه على اطلاع يومي على القضية ومفرداتها السياسية التي لن تدخل في خضم الحياة اليومية إلا على سبيل المزاح».
    سبب آخر يضيفه سراج «يلجأ الشباب إلى هذا الأسلوب لأنهم يريدون أن يتميّزوا عن أهلهم باللغة، ويرغبون في التودّد والتقرّب من الآخرين بالنكتة التي يعتمدونها لتبريد الأجواء والتخلص من التشنّج السياسي». ويشدد على ايجابية هذه الظاهرة «المعروفة لدى بيئات شبابية في مجتمعات أخرى، لكنّها تصبح مقلقة عندما تتخذ شكلاً طائفياً، أي عندما يتقابل الطرفان لغوياً عبر ضمائر «نحن وهم».
    ويرى سراج ان هذه التوصيفات التي يستخدمها الشباب تخرق قاعدة الاستعمال المشترك أو ما يصطلح على اعتباره الكلام الطبيعي، لتمسي تعابير يقصد بها التلميح والانتقاد والتأكيد على مبدأ «التجربة الخاصة للمتكلمين».

    «هلال» و«مربع أمني» في صف الآداب

    يعدّ الدكتور نادر سراج حالياً دراسة عن استخدام الشباب للمصطلحات بعد أن لفت نظره التطوّر الدلالي في منطق الشباب لدى سماعه أحد طلابه في الصف يطلق عبارة: «بدا الطائف ليحلاّ». وكان الطالب آنذاك يقصد فتاة جميلة، مغرورة، صعبة المنال، استعصت على جميع زملائها الشباب في الصف، الأمر الذي دفعه للرجوع إلى مفهوم الطائف «ليحلاّ». يقول سراج إن «هذا التشبيه التمثيلي يرمز إلى دور اتفاق الطائف الذي اختصر محاولة اللبنانيين للوفاق بعد استمرار للحرب الأهلية لأكثر من 15 سنة. وترمز هذه العبارة الى صعوبة التودّد والتواصل مع هذه الفتاة». ويوضح فكرته: يعمد المواطنون إلى أخذ مصطلح له دلالاته في القاموس السياسي اللبناني ثم يعملون على تعديله واستخدامه وفق المعنى الوجداني المعتمد لديهم بما يتناسب وحاجاتهم».
    الامثلة كثيرة في هذا الإطار بدءاً من مصطلح «الردع» الذي ساد في زمن الحرب الأهلية، و«اتفاق الطائف» في زمن السلم، وصولاً إلى «طاولة الحوار» اليوم، وغيرها من المصطلحات.
    وقد تماهت بعض المصطلحات مع تلك المستخدمة من الزعماء السياسيين. ففي كلية الآداب، لاحظ سراج، أن طلابه يستخدمون عبارة «إلى أين؟» كلّما غادر أحد زملائهم قاعة التدريس. وإذا طالت المحاضرة أو اصابهم الملل، يصرخون «كفى» تيمناً بحملة «كفى» التي أطلقت لوقف الاغتيالات في لبنان. أما «العصيان» فتحتكره خصوصاً الفتاة التى تعترض على امتحان أو أستاذ في الكلية. ومن ناحية «فنية» سياسية، لاحظ سراج في الصف وجود ما يسمى «الهلال» ترسمه مجموعة من الفتيات المؤيدات لـ«حزب الله» من خلال طريقة توزعهن على المقاعد. أما مجموعة الطلاب الذين ينتمون الى جهة سياسية معينة، ويجلسون معاً، فهم طلاب «المربع الأمني» أياً كانت انتماءاتهم.