إبراهيم الأمين
ما قاله السفير السعودي عبد العزيز الخوجة لـ«الأخبار» من أن البطريرك الماروني نصر الله صفير هو المعني الأول بالاستحقاق الرئاسي، فتح الباب، من حيث قصد أو لم يقصد، على آلية مقاربة هذا الملف من جانب طرف بارز مثل السعودية، التي تعد الآن من أبرز الناخبين في الرئاسة اللبنانية. باعتبار أن الكلام التقليدي الذي يقوله سياسيون لبنانيون عن موقع الكنيسة في الحل الداخلي، يتسم عادة إما بنوع من المحاباة الكيدية وإما برغبة في الهروب من إطلاق موقف حقيقي وحاسم من مسائل حساسة.
وإذا كانت السعــــــــودية لا ترى عيباً في الصيغة التقليديــــــــــة التي تعطي الكنيـــــــــسة موقعاً مرجّحاً في القرار المسيحي، فهي تتخذ موقفاً شبيهاً بمـــــــوقـــــــــــف القوى الحليفة لها في لبنان، التي تريد الهروب من النتائج الشعبيـــــــة للتمثيل المسيحي نحو إعادة الكرة إلى الموقع المبهم، وذلك يخفي عادة موقفاً سلبياً من أحد الأطراف، وهو في هذه الحالة العماد ميشال عون، باعتبار أن السعودية تعرف جيداً أن هناك مشكلة كبيرة في تسويق أيّ من أعضاء 14 آذار لموقع رئاسة الجمهورية، فهو لن يحصل على تأييد الحلفاء من مسيحيّي السلطة من جهة ولا على تأييد غالبية المسيحيّين من جهة ثانية، وسوف يقتصر تمثيله العام على غالبيتين درزيـــــــــة وسنية مقابل معارضة غالبيتين مسيحية وشيعية، إضافة إلى كون المعارضة تمثل في الوسطين الدرزي والسني أكثر بكثير مما تمثّل الأكثرية في الوسطين المسيحي والشيعي.
ومع أن البطريرك الماروني يظهر حذراً شديداً في مقاربة هذا الملف لناحية تولي الترشيح أو التسمية، إلا أن غالبية الطبقة السياسية تشير إلى أن بكركي لا تمانع في تولي هذا الامر إذا كان ذلك يوفر لها المظلة المعنوية التي تؤثر لاحقاً على سلوك رئيس الجمهورية، علماً بأن هناك من سبق له أن أثار الامر مع صفير نفسه. ورد الاخير بأنه لا يريد تكرار تجربته السابقة عندما قدم الى الاميركيين لائحة من خمسة أسماء استخدمت في التفاوض الاميركي ـــــ السوري ولم تنته على ما كان هو يفترضه، الأمر الذي أدى الى ما أدى إليه. ومع ذلك فإن الكنيسة عانت مع ملف الرئاسة منذ توقف الحرب الاهلية، فهي لم تكن شريكة لا في اختيار الرئيس المرحوم الياس الهراوي ولا في اختيار الرئيس العماد إميل لحود، كما لم يؤخذ برأيهــــــا بتاتاً في موضوع التمديد للرجلين، وكان الاميركيون الذين يظهرون اليوم اعتراضهم، كما الفرنسيون، يوافقون على إتمام بعض الامور ضمن استراتيجية تقول بأن الأمر ليس بيد اللبنانيين أيضاً.
لكن الموقف السعودي إذا ما تم ضمه الى موقف المصري وتالياً الفرنسي، إنما يخفي رغبة في تحقيق جملة أهداف أبرزها، اعتبار أن الرئيس الجديد يجب أن يكون خاضعاً لتوافق مسيحي، وإذا تعذر ذلك فإن الأمر متروك للكنيسة، وفي هذه الحالة يعرف الكل أنه لا مجال لتفاهم بين أركان 14 آذار أنفسهم في هذا الملف، فكيف على المستوى المسيحي عموماً، ما يعني أن ترك الأمر الى الكنيسة إنما يعكس رغبة في إنتاج تفاهم خاص مع الكنيسة، ودفعها الى خطوة قد تولد توتراً سياسياً وشعبياً على الصعيد المسيحي كما على الصعيد العام، وواقع الحال لا يشير الى أن الكنيسة تحظى بدعم وتغطية من كل الشارع المسيحي في هذا الملف، ثم إنه يصعب إسناد أمر كهذا الى الكنيسة في اللحظة التي لا تمثل فيها هي مركز الحيوية في الشارع المسيحي، كما لا تمثل نقطة الوصل مع الآخرين، وبدل أن يعاد الاعتبار الى الموقــع المفترض أن تحتله الرئاسة الاولى في التســــــــوية، فإن هذه المعادلة من شأنها تكرار التجارب التي تقول بأن رئيس التسوية هو الرئيس الضعيف إزاء الاخرين، ما يعني أنه لن يكون من الصنف الذي يعيـــــــــــد الاعتبار الى موقع الماروني الأول في الدولة.
وفي هذا السياق، يبدو أن فريق السلطة في لبنان وداعميه في الخارج وآخرين من قوى داخلية، في مناخ المزيد من التهميش للفريق المسيحي في إطار القرار الداخلي، إذ أظهرت المداولات التي جرت خلال السنتين الاخيرتين أن تحالف «المستقبل» والحزب الجنبلاطي الدرزي يسعى الى جعل الرئاسة موقعاً ثانوياً غير قادر على العمل ضمن آلية القرار الأساسي. ومن ثم فإن اختيارات هذا التحالف للمرشحين للرئاسة تتراوح بين موظف دائم أو متعاقد مع هذا الحلف. وفي الحالتين يبدو الموقع الرئاسي بالنسبة إلى هذا الحلف هامشياً وغير ذي فاعلية ولا لزوم لإشراكه في صناعة القرار الأساسي، وهو الأمر الذي يقود عملياً إلى جعل الانقسام حول الترشيح الرئاسي ذا أبعاد طائفية ومذهبية وسياسية، حتى ولو تقرر خوض معركة مرشح واضح المعالم ومستقل عن هذه الأحلاف المدمرة للبنان.
وهذا بحد ذاته تدمير اضافي لموقع الرئاسة واعتباره خارج اطار المفاضلة، بعكس كل الهمروجة التي تقودها قوى 14 آذار الآن والتي تعتبر فيها موقع الرئاسة حاسماً في المسألة الداخلية، ويصعب على أحد تصديق وليد جنبلاط وسعد الحريري ومعهما بقية المندوبين عن السفارتين الاميركية والفرنسية في بيروت بأن قلب هؤلاء على منصب الرئاسة بقدر ما أن أعينهم على كرسي الرئاسة، وهو الأمر الذي يتعزز بسلوك مسيحيّي السلطة وبدعم من بعض اطراف الكنيسة ازاء تجاهل الضرر الذي يصيب موقع الرئاسة جراء التهشيم المنظم الذي يقوده تحالف الحريري وجنبلاط.
وإذا كان مفهوماً سلوك هؤلاء، فإن المستغرب عند أوساط معنية هو الموقف السعودي الذي يتجاهل موقع الرئاسة الآن في اللعبة السياسية ولا يعطيه الدور الحقيقي في أية تسوية يجري العمل عليها، ثم إنه يشارك الآخرين في تهميش هذا الموقع وتكريس عدم فاعليته الآن ولاحقاً، ومن ثم اعتبار الرئاسة أمراً لا يحتاج الى توافق الجميع في لبنان ولا الى توافق مسيحي على الاقل، ويترك الامر الى جهة محددة مثل الكنيسة، حيث يصعب تقدير الموقف الحقيقي للشارع المسيحي في لحظة الاستحقاق، بينما تبدو الحاجة واضحة وكبيرة الى التأكيد على أن موقع الرئاسة لا يزال صمام أمان في مسائل كثيرة داخلية ووطنية عامة، وأنه يجب البحث عن شخصية تقدر على لعب الدور المحصن لهذا الموقع لا تلك التي تجعله رهينة بيد حلف السلطة الحالي أو تحت رحمة الوصي الاجنبي.