كامل جابر ــ آمال خليل
يمسح حسن العابد دمعة تسللت من خلف وجع؛ يكفكف عشية الذكرى الحادية عشرة، للثامن عشر من كل نيسان، آلام «شريط» المجزرة الحاضر «في كل لحظة ودقيقة، بمختلف تجلياتها»؛ يخفف بذلك وجعاً آخر يرتبط بمفاعيل هذه المجزرة، صحياً و«تعويضاً» وتبدلاً في مجريات الحياة.
حضرت مجزرة آل العابد في النبطية الفوقا، بعمقها المأساوي، في عدوان تموز وآب، حاول رب العائلة تكرار «ملحمة» الصمود التي انتهت بمجزرة؛ في اليوم الثاني عشر للعدوان حرضته زوجته على المغادرة، حتى لا تلقى العائلة ما لاقته في نيسان 1996؛ فكانت الوجهة سوريا. يقول: «كل ساعة كنت أتخيل ما حصل، لكن عندما اشتدت الحرب أتعبني التفكير والوجع. المجازر التي كانت تمر يومياً فظيعة ومؤلمة، بيد أن إنجاز المقاومة والتصدي الذي كسر شوكة العدو، هدّأ من روع الألم وهوّن مأساتي. عشت عمري كله لم أسمع بخسارة لإسرائيل، ما حصل هذه المرة جعلني أشعر بالعزة وبأن دماء الشهداء ودماء عائلتي أنبتت نصراً».
ثمة أسئلة متجددة تمثّل عامل وجع عند العابد يضاف إلى «وجع الجسد والأمراض، وجع ابنه إبراهيم المستعيض عن فقرتين في الرقبة بمفاصل فضة، ويخضع باستمرار للعلاج؛ ونجود التي تأخرت حتى حملت بعد زواجها بسنتين؛ ولم يحصل الاثنان على بطاقة صحية لكونهما جريحي حرب؛ هل يعقل ما يحصل لنا؟ إلى من نذهب ونشكو همومنا؟ ثمانية شهداء: الزوجة فوزية خواجا (43 سنة)؛ الأولاد: لولو (17 عاماً) محمد (14 عاماً) علي (11 عاماً) هدى (9 أعوام) ندى (7 أعوام) مرتضى (4 أعوام) ونور الرضيع (4 أيام)، يضاف إليهم خطيب نجود احمد بصل (22 عاماً) وتعاملت معنا الدولة كأننا أنصاف شهداء! 92 مليون ليرة فقط هو ما دفعه مجلس الجنوب عن ثمانية شهداء بدلاً من 160 مليون ليرة؛ أنا هنا لا أساوم على أشلاء أولادي لكن أبحث عن حقي عند الدولة ومجلس الجنوب؛ بعد المجزرة اقترضت ممن تبنى شهداء عائلتي 24 مليون ليرة لأسدد تكلفة القبور وإجراءات العزاء، وإذ بها تحسم لاحقاً من مبلغ التعويض».
ويردف: «قالوا: هاتوا إخراجات قيد لإعداد بطاقات صحية، وحتى اليوم لم نرها، ولا من يسأل كيف تعيشون؟ أجريت تمييلاً للقلب ودفعت مبلغ 650 ألف ليرة، ومن أين آتي بهذا المبلغ في كل مرة، بعدما خسرت عملي وسيارتي في عدوان 1996؛ وما حصلت عليه من تعويض اشتريت به شقة لإبراهيم، لأنه ليس بمقدوره أن يمارس أي عمل يحتاج إلى جهد».
رزق العابد صبياً سماه محمداً (9 سنوات)، وبنتاً سماها نور الهدى (4 سنوات)، تجمع اسمي الشهيدتين نور وهدى؛ ورزق إبراهيم ابنتين ونجود بمثله. يقول الوالد: «الطفلان يعرفان مختلف التفاصيل عن أخوتهم الشهداء، نذهب باستمرار إلى المقبرة لنضع الزهور؛ لا أحد يتذكرنا إلا عندما تدنو الذكرى؛ كأنهم لا يعرفون بيتي! أنا لن أمد يدي لأحد؛ كل الناس قبضت عن العدوان الأخير ولم يأت من يقول: سلاماً».
في قانا، الحزن عامر في الدورة الحادية عشرة لمجزرتها الأولى التي اتّخذت لها زميلة لم تسرق من وهجها، إنما زادت في برنامج زيارة الشخصيات إلى البلدة هذا العام. مساء أمس، مشى أطفال قانا في مسيرة شموع انطلقت من مقبرة شهداء المجزرة الثانية الـ 28 في خراج البلدة، إلى وسطها حيث يرقد شهداء المجزرة الأولى الـ 108 منذ 11 عاماً حيث ينظّم اليوم نهار إعلامي طويل ينتهي بوضع البعثة القطرية لدعم لبنان، حجر الأساس لبناء قاعة احتفالات بجوار مقبرة الشهداء الثانية. لكن صمت الموت الذي يلفّ الأحياء من أقصاها إلى أقصاها، سيعود إليها بعد تفرّق الزوار ليسيطر خوف من مجزرة ثالثة.
وإذا بدأت المجزرة الثانية في طريقها للذكرى، فإنها لا تزال حية في تجارب 13 ناجياً يعيشون هول المجزرة في جراحهم الجسدية والنفسية، بعد الإجحاف الذي لحقهم من تعويض الهيئة العليا للإغاثة عليهم؛ خصوصاً أنها قدّرته بعد كشف أجرته بعد مضي أكثر سبعة أشهر على إصابتهم، الأمر الذي خفّض قيمة التعويض إلى أقل من الربع، كالطفل حسن شلهوب (5 سنوات) الذي وضعه رجال الإنقاذ مع الشهداء، قبل أن يلاحظ أحدهم أنه ينبض رغم إصابته البليغة. لكن الهيئة كشفت عليه بعد أشهر، لتفيد أنه مصاب بجرح في رأسه يستحق مبلغاً زهيداً. فيما لم تلحظ الصدمات النفسية التي تضاعفت لدى حسن وسواه، الذي فقد أخته الوحيدة زينب (6 سنوات).