فداء عيتاني
ضغوط على المعارضين ووعود لم تنفّذ... واتفاق السرايا وقريطم شرط التغيير

يجيل مفتي البقاع خليل الميس نظره في مكتبه في أزهر دار الإفتاء، ويقول: «انظر حالنا هنا، بينما في البقاع لدينا مقر للإفتاء على أرض تصلح لقلعة». الشيخ الستيني يجلس في مكتبه المتواضع وهو يجيب برحابة صدر عن الأسئلة. صريح مع عفوية لا تخفي حنكة سياسية. يسأل: «أي إصلاح وهو محكوم بتوافق رجل محاصر في السرايا وآخر يسكن في قريطم؟». ولا ينسى الشيخ الذي يتمتع بحكمة العمر وأريحية البقاعيين أن يحذّر محدّثه من ألا ينشر «إلا ما يفيد»، وخصوصاً أن «كلاً منّا على ثغر من الثغور في موقعه ودوره».
وفيما تتعدد الاتجاهات بين علماء السنّة، إلا أنها كلها تتفق على ضرورة إصلاح حال باتت تشهد هزالاً، لا يراه أهل السياسة، أو يرونه مفيداً لمصالحهم. إصلاح مؤسسات وطرق تعامل وإدارات وقفية ومواقف سياسية كادت في لحظة حماسة مفرطة (أو مفتعلة) تؤدي الى حرب مذهبية، تستمد من الماضي البعيد ــ والقريب ــ جذوة لا تنطفئ من القتال والانتقامات.
«تدخل الى دار الإفتاء، فلا تجد أحداً من الموظفين»، يقول أحد كبار العلماء الذي قضى أكثر من ربع قرن في الشأن العلمائي، وأُوقفت مخصّصاته وتعرّض لما يسميه «الاضطهاد». «بعضهم مسافر، وبعضهم الآخر في العمرة، وبعض ثالث مريض، فيما تركت الدار لشأنها»، يضيف قبل أن يؤكد أن «أول الواجبات» اليوم «معالجة فساد إداري لا يزال مستشرياًَ».
من أين نبدأ في وصف الفساد؟ يسأل الشيخ ويجيب في آن: «الأوقاف غير منضبطة، المساجد يجب أن تضم الى دار الفتوى، ليست فقط المساجد التي يمكن التعرض لمشايخها لأنهم ضعفاء، كف يد بعض من أطلقت يدهم في شؤون الإدارة، واعتماد المديرين الثقاة من العلماء».
هذا الاختصار هو الحد الأدنى الذي لا يرى العالم بداً منه قبل أي خطوة، وهو، على أي حال، أقل من «الحد الأدنى» الذي تطالب به مجموعة من العلماء خلال اجتماعات تجري بين فترة وأخرى. وأحدث هذه الاجتماعات عُقد في منزل الشيخ خلدون عريمط، وضم 11 رجل دين من دار الإفتاء «ممن لا تربطهم أي علاقة بحزب الله أو إيران أو سوريا»، بحسب ما يؤكد العالم، لافتاً الى حساسية الموقف السنّي إزاء أي علاقة مع سوريا أو مع أي طرف شيعي مرتبط بها أو بإيران.
الشيخ عريمط تولى إبلاغ فحوى ما جرى تداوله في الاجتماع الذي بحث «أوضاع الأمة»، الى عدد من العلماء ممن لم يتمكّنوا من الحضور «نظراً الى الضغوط التي تعرضوا لها، إذ كانت المرجعية تتصل بالعلماء وتطلب منهم عدم الحضور»، على رغم الكتمان الذي أحاط بالدعوة والجلسة معاً.
نهاية الأسبوع الجاري ستشهد اجتماعاً آخر، وبحسب أحد المدعوين، «سيتم تداول أوضاع أمة وصلت الى حال من الرثاثة لا بد معها من استنهاضها، ولكن لا جدول أعمال مسبقاً للبحث، والأمور متروكة ليطرح كل ما لديه ويسمع ما لدى الآخرين».
«وصلنا حداً صار الشبان فيه يمثلون الأمة وتخلّينا عن شيوخنا»، يقول عالم وهو يخشى من إعلان اسمه خشية تعرضه وتعرض من يسانده لمزيد من «الاضطهاد»، ويتساءل: «هل أصبحت مرجعية الأمة شبانها؟»، ضارباً المثل في موظفين يافعين في دار الإفتاء، «بدل أن يتم إعزاز الأمة بكبارها ها هم يوظفون من لا خبرة له».
دعوات الإصلاح هذه التي يصر على الجميع عدم تحميلها معاني سياسية، هي في جوهرها استياء من دور أدّته المرجعية في اللعبة السياسية الداخلية. ويقول مشارك في الاجتماعات في منزل عريمط إن «ثمة إصراراً على عدم الانغماس في 8 ولا في 14 آذار، وأي خطأ في هذا الإطار يفرغ التحرك من مضمونه». ويشير آخر الى «أننا اضطررنا إلى التوقف عن المطالبة بالإصلاح مع اشتداد الأزمة السياسية الداخلية، إذ إن أي حركة كنا نقوم بها أو موقف نطلقه كان يستخدم ضدنا»، فيما يرى ثالث ان المرجعية الدينية «استفادت من كل حركة ضدها لتبيع موقفها الى الجهات السياسية التي تمثلها في الطائفة». ويشير أحد رجال الدين الى ان «تخفيف حدة المطالبة كان ضرورياً في مرحلة جرت فيها مواجهة صريحة مع الطرف الآخر، وكان لا بد من وقف الكلام الداخلي، ولكن الآن ومع مناخ يبدأ بالجمود يمكن طرح الأمور مجدداً على بساط البحث».
«على رغم تخفيف المطالبات والتصريحات إلا أن الوعود التي قُطعت لم تنفذ بل تم تجاهلها بالكامل»، يقول رجل دين قُطعت له الوعود بأن تباشر المرجعية بالإصلاح إذا ما خفف حدة مواقفه، وهو أعطى المهلة الكافية لتحقيق الوعود من دون نتيجة. قبل ان يضيف «فليبدأ (المرجعية) بالإصلاح، وليلتزم بالوعود وليبتعد عن العلماء بدل قطع أرزاقهم، وليجنّبنا العتب على دور الطائفة في الفتنة المذهبية».
يحمد أحد العلماء الله على تحوّل موقف دار الفتوى السياسي، لافتاً الى أنه «لولا تدخّل المملكة العربية السعودية لما تم الاعتدال في الخطاب، ولكن والحمد لله أصبح جو دار الفتوى جو وحدة إسلامية بعدما تخلّى عن الدعوات الى حمل السلاح». ويضيف آخر بهمس يقنع فيه سامعيه: «على الدار ان تعلم أنها دار إفتاء لبنان وليست دار إفتاء الطريق الجديدة أو غيرها»، حاملاً على المرجعية التي دفعت بالشبان الى حماسة فائقة في صراع من دون جدوى يصفه المفتي الميس بأنه «صراع لا يمكن فيه أي شخص أن يلغي الآخر».
الميس، الذي يتحدث بحماسة صافية وببساطة متناهية، يقول «ثمة قدرية في التاريخ، هذه الخلافة الإسلامية التي أُخذت من مقتول غدراً انتهت عند من أخذها، وكل هذا الحقد الذي قتل رفيق الحريري يحمل بصمات القدرية التاريخية في نهايته». وينتقل للحديث عن لقائه بالشيخ محمد يزبك حيث اتُّفق على العديد من النقاط، إلا ان ما يقلق الشيخ الميس هو «الفرس الذين يحملون حقداً على العرب، وثمة مشكلة مذهبية بيننا وبينهم، أما أبناء العرب فلا مشكلة معهم ويمكن ان تحل الفروق باللقاءات». قبل أن يصل الى الحاضر «ومن يصلح؟ المحاصَر في السرايا أو الساكن في القصر ولا أحد غيرهما، وفي حال حصول أي تغيير في شؤون دار الفتوى فإن المفتي المقبل لن يكون سنّياً»، يقول الرجل قبل أن يعدل وضع عمامته ويغمض عينيه ليدفع سامعه الى تصديقه، «ثمة فكرة باستحداث موقع نائب للمفتي، وكل تغيير الآن سيكون نتيجة الصراع السياسي في البلد، وهنا نحن في دار الإفتاء الحلقة الأضعف، وأي تغيير سيطالنا إذا لم تكن موازين القوى لمصلحتنا». وقبل ان يطلب الشاي يقول: «نحن تعرضنا للاضطهاد منذ أن انهارت السلطنة العثمانية، وفي حال أي تغيير سنطلب من الآخرين حقوقنا طلب الذليل، أما إذا ما بقينا وتملّكنا فإن من تاريخنا إعطاء الآخرين إعطاء الكرام».
الميس الذي يتفهّم، كما يؤكد، مواقف العلماء الداعين الى الإصلاح يُشعرك بواقعيته، تماماً كما يضع قدميه على الأرض، «(رئيس كتلة المستقبل النيابية) سعد الحريري وضع أمام دم والده ونحن نعرف من أية بيئة أتى، وهو غير مؤهل ولا خبرة لديه. ومرجعيتنا الدينية مسكينة، وهذه حدودها، ولكن لا بد من الدفاع عنها تحت أي ظرف كان، فالرجل كما نقول في القرى، رجل ولو بالقفّة، وهو الكرامة والعنفوان، وما منع الاقتتال الداخلي هو الدور السوري الذي خشي من امتداد القتال الى أراضيه حيث يعاني الناس من القهر وهم ما زالوا أجنّة في بطون أمهاتهم».
يبسم الميس وهو يضيف: «قد منّ الله علينا وأعمى عدوّنا الأميركي، الذي يقتلنا في العراق وفي غيرها، وصار هنا يغطّي وجودنا، وإلى حين تغيُّر الحال نحن نحمل عبء الأمة كلها».