إبراهيم الأمين
تتصرّف المعارضة على أساس أن ملف المحكمة يتقدم نحو الإقرار في مجلس الأمن بما يُدخل البلاد في مرحلة جديدة. تشعر الموالاة بأنها تقترب من تسجيل نقطة في مرمى خصومها، وهي ترغب من خلال هذه الخطوة في تعديل قواعد اللعبة التي شلت السلطة في البلاد منذ شهور عدة. ووجدت في نقل ملف المحكمة الى الأمم المتحدة كسراً لمعادلة الحكومة مقابل المحكمة، وهي تفترض أن بمقدورها مناقشة المعارضة لاحقاً على أساس أن ملف المحكمة صار من الماضي، وأنه خارج التفاوض، وبالتالي فإن أي بحث في الأمور الأخرى يجب أن يكون خارج لعبة المقايضة، تلك اللعبة التي لم يجد غيرها سعد الحريري ليفاوض بها ذات يوم حزب الله وحركة أمل، ولا سيما أنه لم يكن بمقدوره حشر بقية قوى المعارضة في هذه الدائرة، لأن التيار الوطني الحر أخذ المسافة منذ اليوم الأول وقال إنه مستعد لكل أنواع الضمانات لإقرار المحكمة داخلياً، علماً بأن زعيمه العماد ميشال عون يعرف أن ملف المحكمة له بعده الابتزازي إقليمياً وله بعده الثأري داخلياً. كما أن القوى السنية في المعارضة عملت طوال الوقت على تحييد نفسها، برغم أن أحد أبرز أركانها الرئيس عمر كرامي ذكّر آل الحريري مراراً بأن العدالة لا تقوم بمعادلة استنسابية، وأن من يريد الاقتصاص من قاتل رئيس وزراء لا يمد يده الى قاتل رئيس وزراء آخر.
على أي حال، فإن الرغبة الجامحة لدى فريق 14 آذار في إنجاز هذه الخطوة تعترضها بعض الأمور التي تخص المجتمع الدولي، لكن ما يعوقها داخلياً لم يظهر بعد، وإن كان فريق المعارضة في طور مناقشة الخطوات المقابلة، ليس لأجل منع قيام المحكمة كما يفترض الثأريون، بل لأجل تكريس الحق في المشاركة من جهة، وتوسيع دائرة الأمان في البلاد من جهة ثانية، وخصوصاً بعد التطور الخطير المتمثل في انضمام كتلة «المستقبل» الى تحالف وليد جنبلاط وسمير جعجع في التشكيك بشرعية سلاح المقاومة، الذي صدف أن أُعلن في الوقت الذي كانت فيه السعودية والإمارات العربية المتحدة تنضمان الى تحالف قوى النظام العربي الراغب في اتفاق سلام مستعجل مع إسرائيل، ضمن آلية عكست نجاحاً متقدماً للمحور الأمني ـــــ السياسي الذي يقوده بندر بن سلطان من جهة، وعمر سليمان من جهة ثانية، وتشرف عليه الولايات المتحدة الأميركية، ويتولى الجهاز الأمني ـــــ السياسي الأردني عملية التنسيق المباشرة بينه وبين إسرائيل. وهو المحور الذي يرى في سلاح المقاومة في لبنان كما في فلسطين عنصر قوة في يد المحور الذي تقوده إيران.
وبالعودة الى المعادلة الداخلية القائمة التي تعكس في قسم كبير منها واقع الاشتباك الاقليمي، فإنه ليس بمقدور المعارضة التسليم بالقواعد الجديدة التي يريدها فريق 14 آذار، بل على العكس فإن المتوقع من جانب المعارضة اللجوء الى سلسلة من الخطوات التي تحقق الآتي:
أولاً: في الاستحقاق الحكومي، لا يزال النقاش قائماً في شأن احتمال أن يعلن الرئيس إميل لحود إقالة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة لنقضها ميثاق العيش المشترك وتجاوز المؤسسات الدستورية وتسليم البلاد الى وصاية دولية، وأن يتم في المقابل اللجوء الى إعلان تأليف حكومة طوارئ، تتولى إدارة البلاد ضمن برنامج عمل يستهدف إجراء انتخابات نيابية مبكرة. وثمة قوى بارزة في المعارضة لا تزال تعترض على هذا الاقتراح، وتبدي خشية من أن يقود الأمر الى انقسام عميق في البلاد ويتيح لقوى الوصاية الدولية دفع لبنان الى حافة الانفجار الداخلي، علماً بأن قوى أخرى تدرس الأمر من زاوية تشريعية وبعض التفاصيل، مثل تعيين رئيس حكومة من الطائفة المسيحية، ليكون رمز المرحلة الانتقالية.
ثانياً، في الاستحقاق الرئاسي، تبدو المعارضة حاسمة في موقفها الرافض إجراء انتخابات رئاسية خارج إطار التفاهم العام، وبالتالي فإن عقد جلسة نيابية في المجلس النيابي الحالي سوف يكون من سابع المستحيلات، وليس على فريق 14 آذار سوى المبادرة الى عقد جلسة للنواب الـ71 في مقر آخر وانتخاب رئيس جديد يحظى باعتراف خارجي ولا يكون قادراً على الحكم داخلياً، الأمر الذي سيؤدي الى تعطيل بقية المؤسسات العاملة في الدولة وسوف يفتح الباب أمام انتقال الانقسام الى المؤسسات الأكثر حساسية ولا سيما المؤسستين المالية والعسكرية.
ثالثاً، عدم الإقرار العام بسلطة مجلس الأمن الدولي في متابعة أمر التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وفق الآلية التي تتبع حالياً، ولا سيما بعدما تبيّن أن اللجنة الدولية للتحقيق باشرت التورط في ألعاب كتلك التي قام بها الفريق السابق بقيادة ديتليف ميليس، حيث تظهر الرغبة في دفع الأمور نحو مواجهة من النوع الذي يحوّل المحكمة الى أداة في يد من يريد إدارة الوضع السياسي في لبنان والمنطقة، وهو الأمر الذي ينذر بمواجهة غير مسبوقة بين قسم كبير من اللبنانيين وبين ما يسمى الشرعية الدولية، الأمر الذي يهدد الاستقرار العام في لبنان وفي
المنطقة.
وبالتالي، فإنه بمقدار ما تذهب قوى 14 آذار نحو التدويل الشامل اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، يفقد لبنان استقراره السياسي والاقتصادي والأمني، فكيف الحال مع احتدام الجدل في المنطقة حول الخطط الأميركية الخاصة بكل من إيران وسوريا وفلسطين التي ترتبط عضوياً بالوضع في العراق، حيث الفشل يصيب كل ما خططت له إدارة الرئيس جورج بوش، حيث هناك مؤشرات إلى مرحلة جديدة من المقاومة ضد القوات الأميركية، ما يجعل الجيش الأميركي في مأزق لا يشبه البتة مأزقه الحالي، وكل ذلك يجري فيما باشرت إسرائيل استعدادات غير مسبوقة للعودة الى لعبة الانتقام من المقاومة ومن لبنان، وهو أمر لا يحتاج الى توقيت سياسي بل يحتاج الى استعداد عملياتي، ويصعب في هذه الحالة ترك العدو يقوم بما يريد دون الاستعداد للتصدي له، الأمر الذي يستلزم من الفريق الحليف للولايات المتحدة والنظام الرسمي العربي رفع منسوب الخطوات الهادفة الى محاصرة المقاومة سياسياً وحتى عسكرياً، وهو ما يفتح الباب أمام مستوى جديد من البحث عن واقع الحدود بين لبنان وسوريا.