عرفات حجازي
لم تحقق الحركة الدبلوماسية الدولية التي قادها نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر سلطانوف وموفد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون القانونية نيكولا ميشال أي اختراق في جدار الأزمة السياسية المتفاقمة، ولم تبدّل لقاءاتهما مع أركان الدولة وأقطاب الموالاة والمعارضة في صورة المشهد السياسي المعقد الذي بدا عصياً على التسويات المطروحة على أكثر من صعيد.
وعلى رغم ما حمله الموفدان من نصائح وتمنيات بفتح حوار داخلي للتفاهم على الآليات المتعلقة بإقرار المحكمة ذات الطابع الدولي في المؤسسات الدستورية، فإنهما أحجما عن تقديم أي مقترحات عملية تضع موضوع المحكمة على سكَّتها الصحيحة من خلال منطق الوفاق على سلة متكاملة للحلول، بدءاً من التوافق على نظام المحكمة والممر الإجباري والدستوري لها في حكومة وحدة وطنية، وانتهاء بانتخابات رئاسة الجمهورية وإعادة الحياة إلى المؤسسات المشلولة.
وفي مراجعة المواقف والتصريحات التي أدلى بها الموفدان وأطراف النزاع، يمكن الخروج بخلاصات أبرزها:
أولاً، لم ينجح سلطانوف وميشال في فك عقدة لسان المعارضة والحصول منها على الملاحظات التي اشترطت الأخذ بها للموافقة على مشروع قانون المحكمة. فالمعارضة التي رفضت تقديم هذه الملاحظات إلى أقرب الحلفاء، سوريا وإيران، لن تكشف عنها أمام روسيا والأمم المتحدة، لأن مناقشتها تكون في المكان الطبيعي لها، أي داخل حكومة وحدة وطنية تحقق المشاركة الفعلية. وخلافاً لما يعتقد كثيرون، ما زالت هي عنوان المشكلة والأكثر حضوراً في الخلافات السياسية. وشددت المعارضة على أن المطلوب من الأمم المتحدة أن تساعد الفرقاء على إقرار نظام المحكمة في لبنان من أن تتخذ موقفاً منحازاً إلى جانب فريق على حساب الفريق الآخر، فضلاً عن أن المعارضة ترى في طرح ملاحظاتها أمام الموفدين الدوليين نوعاً من الإقرار بوصاية دولية على شأن لبناني ينبغي أن يبتّ ضمن المؤسسات اللبنانية ووفقاً لأحكام الدستور.
ثانياً: إن مسألة إقرار المحكمة وفق القنوات الدستورية اللبنانية باتت أمراً متعذراً بسبب الفجوة الكبيرة في مواقف الطرفين، ما يعني حكماً نقل المحكمة بكل تعقيداتها إلى مجلس الأمن، حيث سيدور صراع المصالح بين الدول التي تريد أن تحمي مواقعها، وبالتالي فإن وضع المحكمة تحت وصاية مجلس الأمن لا يمثل نهاية المكان، لأن هذه المحكمة لن تقوم وتباشر عملها قبل سنة، على أقل تقدير، سيواجه لبنان خلالها استحقاقات كبيرة ومفصلية ستبدل كثيراً في الوقائع والمعطيات، الأمر الذي سيعزز فرص المساومات بين الكبار ويدفع بالولايات المتحدة وفرنسا، وربما بريطانيا، إلى إدخال تعديلات تلامس المضمون على نظام المحكمة لتجنب الفيتو الروسي والصيني وإبقائه في حدود الامتناع عن التصويت.
ثالثاً: على رغم أن مهمة سلطانوف سياسية ومهمة نيكولا ميشال قانونية، فإن الأولوية لدى الرجلين هي للتوافق السياسي مع إدراكهما أن المشكلة ليست في المحكمة فقط، وليست في الحكومة كذلك، بل في خيارات كبيرة ومصيرية مفتوحة على صراعات ومشاريع وأدوار إقليمية ودولية. وقد سمع الموفدان من الرئيس نبيه بري ما مفاده أن لا اختلاف بين القوى السياسية على إنشاء المحكمة، بل في التباين بينها في المداخل الدستورية، مؤكداً أن المدخل الصحيح من خلال حكومة وحدة وطنية يجري من خلالها تمرير المحكمة في مجلس النيابي، لافتاً إلى أنه ليست لدى المعارضة ملاحظات تعجيزية، وأنه من منطلق مسؤوليات سيقف بقوة ضد شطب أي بند من بنود المحكمة يكون هدفه الكشف عن الحقيقة وخدمة العدالة، مشيراً إلى أن اللجنة الحقوقية التي اقترحها من الطرفين وبمشاركة وزير العدل شارل رزق وميشال نفسه، «يمكن من خلال النقاشات داخلها الاقتناع إما بوجهة نظر واضعي النظام، وإما إقناعهم بصوابية ملاحظاتنا التي هدفها الوحيد وضع الضوابط وتوفير الضمانات لعدم حرف المحكمة عن الغاية التي من أجلها أنشئت، رابطاً كل ذلك بموافقة الأكثرية والتسليم بتشكيل حكومة الشراكة الوطنية، خصوصاً أن بعض بنود المحكمة يستدعي إدخال تعديلات على الدستور اللبناني الذي يلحظ شرطاً للتعديل هو أكثرية الثلثين، ما يستلزم توافقاً على قيام الحكومة العتيدة.
والسؤال: هل انتهى الأمر، وهل استنفدت كل محاولات إقرار المحكمة في القنوات الدستورية؟
المتتبعون لحركة الموفدين الدوليين ينصحون بعدم التسرع بإطلاق الأحكام والاستنتاجات قبل معرفة ما ستؤول إليه محادثات الموفد الروسي مع القيادة السورية الحليف الدائم والثابت لروسيا وكذلك الوقوف على محصلة الزيارة التي يعتزم القيام بها إلى دمشق الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، إذ في ضوء الزيارتين ستبني روسيا والأمم المتحدة موقفيهما من المحكمة. وفي معلومات لمصادر دبلوماسية أن روسيا تدرس بجدية إجراء مشاورات عاجلة مع الرياض، وبالتفاهم مع دمشق، لإطلاق مبادرة مشتركة تسهم في حمل أطراف النزاع على التفاهم في موضوع المحكمة والحكومة قبل الشروع في أي نقاش حول استصدار قرار دولي بشأن المحكمة تحت عنوان فشل القوى السياسية في لبنان في التفاهم لإقرارها وفق الآليات الدستورية اللبنانية.