إملي نصر الله
إجراءات حماية السياسيين تتزايد في بيروت وسائر المناطق. وبينما يتفهّم سكّان العاصمة ضرورات الأمن، تتغيّر حياتهم اليومية وتُفرض حواجز تعترض تنقلاتهم. الأديبة اللبنانية املي نصر الله تتحدّث عن معاناتها وجيرانها في احد «المربّعات الامنية»


سأحاول قدر المستطاع أن أتحدث بهدوء، عن موضوع يحرق أعصابنا، ويتغلغل حتى أعماق الكيان، إذ يتعلّق بالمكان، وحرية العبور منه وإليه!...

***


من بعض نفحات الحظ، أننا نقيم في منطقة من تلك المحميات، وأنا أسميها «الإقطاعيات المستحدثة»، وأعني المناطق المسوّرة بجدران الأمن ورجاله، لأن أحد سكانها شخصية سياسية بارزة، وبالتالي، مهددة، وعلينا نحن، الجيران العاديين والبسطاء، أن نتحمّل أوزار سوء الأحوال، فنصبح، بين عشية الأيام وضحاها، عوامل مقلقة، بل مهددة للأمن، والسلم الأهلي والحكومي، وبالتالي، يجب لدى كل خطوة أو نأمة، إخضاعنا للتفتيش، وما أدراك ما هي أساليبه؟...

***


وكان، في إحدى الجولات السابقة، يقتضي فتح صندوق السيارة، سيارتنا الخاصة لا التاكسي، وفحص محتوياته، وذلك بعد الاطمئنان إلى أن صندوق المحرّك آمن، ولا يحتوي على قنابل موقوتة أو متفجرات!...
وفي إحدى جولات الحوار مع المسؤول الكبير في الحيّ، كسبنا الثقة، ورفعت عنا تلك الفروض، وصار حارس الأمن يكتفي باستخدام «المرآة السحرية» وهي تؤدي مهمة البحث عن عوامل الخطر بمجرد تمريرها حول عجلات السيارة... ونكون نحن في الداخل، أي نحن المقيمين في الحيّ، وقبل تحوله بسنين. وغالباً ما يكون برفقتنا أهلنا، من عجزة وأطفال نحبهم، ونحرص كل الحرص على سلامتهم، ونقول في سرّنا: الحمد لله إن الجار أيضاً، تهمه سلامتنا، وإلا لما دفع رجاله إلى التدقيق في هوياتنا وفي نيّاتنا.

***


ولكن، في الأونة الأخيرة، وبعدما ارتفعت نبرة حوار التفاهم والمحبة بين ساسة الأمور، وقادة الوطن، ارتفع سقف جديد للحماية، وبأساليب مبتكرة وجديدة. وتوسعت الدائرة الأمنية حولنا، ونحن على «مصلّبية» تنطلق منها أربعة شوارع، أقفلت جميعها في وجوه العابرين، إلا سعداء الحظ، المقيمين في الداخل.
وعدنا إلى دوامة أمنية جديدة، تطالنا، وتطال عيالنا، أولادنا، خصوصاً إذا كانوا يقيمون خارج هذا الحي، وطلع على بالهم زيارة أهلهم!...

***


أما الأصدقاء، «فيا طولها غربة»!... من زمان كفوا عن ممارسة هذه العادة السيئة: زيارة الأصدقاء... إنها واجبات تقليدية، ولا تتماشى مع زمن الحداثة!... ثم لماذا اخترع المستر «اسكندر بلّ» التلفون؟... ومن بعده الذين أتبعوه بالجوّال؟...
في ظني أن هذا كان هدفهم الأول: أن يلزم كل واحد بيته، ويكتفي من الأحبة، بسماع الصوت، ويغنيه ذلك عن المشاهد أو اللقاء والعناق!...

***


لكن الناس الذين يقيمون في دور سكن عادية (ونحن منهم) لهم حاجات يومية، وضرورية، مثل سائر سكان المدينة، وتقف دون وصولها عقبات: التدقيق في هوية العابرين، وأهداف تحركهم. حتى إذا تم ذلك كله، تطلب منهم الهويات، أو دفاتر السيارات، لوضعها في الإيداع إلى حين خروجهم، وكأنما يربطون بحبل في العنق، ويطوّل لهم كي لا يمضوا بعيداً عن الحواجز!...

***


ونحن نقيم في هذا الحي منذ أواخر الستينات من القرن الماضي، وقد مرت بنا سنوات الحرب (الخامسة؟...) بكل أهوالها، ولم نغادر...
قصفنا بالصواريخ.
تناولنا رصاص القنص (الخارق الحارق المتفجّر) أتذكرون النعت؟... وكان في بعض الأحيان، يحوّلنا إلى ما يشبه الصراصير، تحتمي في زوايا الملاجئ، ولم نغادر... وحتى بعدما تعرّضت دارنا لحريق دمرها، وأتى على محتوياتها، أعدنا البناء والترميم، ولم نرحل... بل حوّلتُ التجربة إلى قصص وروايات، تشهد على ويلات الحروب وتعدد ضحاياها، وقد سافر بعضها في العالم، عبر الترجمة إلى عدة لغات.

***


وماذا يعرف الفتى الطيب، والذي يرتدي البذلة العسكرية، عن الوجه الآخر القديم للحي، والتحولات؟!...
وحتى المركز التجاري الشاهق، المرتفع في الجوار، باسمه الإفرنجي، كيف لروّاده أن يفطنوا إلى معنى الاسم، وتاريخه والمشاهد التي تداولتها جولات الحروب السابقة؟
وحتى القصر المجاور، وحدائقه، وقد أنشئت مع حلول السلام، لتمحو آثار المتاريس والمدافع، وحاملات الصواريخ، والباقية آثارها جميعاً، محفورة في أعماق الوعي؟!...

***


عالٍ هو جدار الخوف لدى المسؤولين، أعلم ذلك. لكن ذلك الجدار الذي يرتفع لحظة تلو لحظة، جدار القمع الداخي، لن أسمح به، وسوف أبقى واقفة في العراء، وأدافع ضدّه، لأني في إيماني البسيط، أدافع عن حرية فردية، تستلب منا في اللاوعي، وتضعنا في شرانق عزلة نأباها، وظلمة نرفضها، لأننا نحب شمس الحرية، ونحرص على كرامة الإنسان، ونعمل من أجلها، وندافع عنها، خصوصاً الكرامة الفردية، وهي حق إنساني وطبيعي.
ونأبى أن يقوم من يذكرنا في كل لحظة، بأننا موضوع مساءلة، ومواطنون من هويّة قيد الدرس.