إبراهيم الأمين
سذاجة هي أم استغباء للآخرين؟ كان لا بد من السؤال بعد جولة نائب الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون القانونية نيكولا ميشال. فثمة تكتيك اتَّبَعه، لكن ليس معروفاً حتى الآن من يقف خلفه، ومن هو العبقري الذي أفتى بذلك: شارل رزق أم غير بيدرسون؟
قبل وصوله بيومين على الأقل، كان ميشال يلتقي بدبلوماسيين وإعلاميين في نيويورك. تحدث بحذر عن رحلته المقررة إلى بيروت. لكنه كان يعطي الإشارة إلى أنه ليس مغلوباً على أمره. ثمة قرار سياسي واضح بدعم إقرار المحكمة في مجلس الأمن. والتحفظات الروسية عولجت بإسقاط البند السابع نصف درجة إلى الخلف، بالقول إنه يمكن اعتماده ناقصاً للمادة التي تبرر استخدام القوة العسكرية في تطبيقه. لم يكن ميشال يطلع بالتفصيل على ما مر به لبنان خلال السنة الأخيرة. وهو، ربما، لم يعرف أن الفصل السابع كاملاً، بدءاً من شرط استخدام القوة، قد طبق الصيف الماضي في لبنان لتنفيذ القرار 1559، وإلا فهل يعطينا أحد من هؤلاء الجهابذة تفسيراً للحرب الإسرائيلية المغطاة من قوى الرباعية العربية والغرب؟
قال ميشال أيضاً إن الجوانب التقنية في النص المعروض قوية وغير قابلة للتعديل، إلا إذا جاء من «يفحمنا» بملاحظاته. كان يقول هذا الكلام ويبتسم، لأنه يعتقد بأنه ليس في العالم من قانوني «يعلّم» عليه ويأتي بملاحظات نقدية على مشروعه. وحتى لا يتهم بالغرور، قال: «سنرى ما لدى الآخرين من ملاحظات. وإذا وجدنا (إذا وجد حضرته) أن في الأمر ما يستوجب النقاش فسنفعل، وإلا فسنتمسك بما بين أيدينا».
وبعد وصوله إلى بيروت، قال المبعوث الدولي إن ما قدمه الرئيس إميل لحود يؤخذ بالاعتبار، لكن ليس وفق نظرية نسف ما هو قائم، وإن ما سبق أن سمعه من السوريين عن المحكمة أقفل باب النقاش معهم، وإن ما استنتجه من تعليقات قيادة «حزب الله» لا يكفي للبت إيجاباً بطلب الحزب نقل النقاش فوراً إلى لجنة مختصة داخل المؤسسات اللبنانية. وفي اجتماعه بالوزير محمد فنيش، تصرف كالمحققين الإسرائيليين. يبدأ الكلام وينهيه بسؤال مباشر أو غير مباشر أو ملتوٍ عن الملاحظات. كان مهتماً بأن يخرج من الاجتماع ويقول للصحافيين أولاً، ثم لإدارته، إنه سمع ملاحظات وإنه لا يجد فيها ما يستوجب التعديل. ولما أجبر على الحديث عمّا خرج به من اجتماعه مع حزب الله، قال إنه بحث أمر تسييس المحكمة من زاوية نفي الأمر، لكنه أبقى الإشكالية قائمة، وزاد من تعقيدها بقوله: «إذا كان الهدف حماية متورطين فنحن في خلاف مع حزب الله». هذه العبارة تبدو من اختيارات فريق الأمم المتحدة في بيروت الذي يعرف كيف تكتب الصحافة اللبنانية عناوينها الرئيسية.
لكن التكتيك الأساسي كان يفترض الآتي: يصل ميشال إلى بيروت مسبوقاً بحفلة تهويل لا سابق لها حول نية العالم إقرار المحكمة الدولية في أسرع وقت، ما يعني أن على اللبنانيين الذين يرفضون أو يخشون خطوة من هذا النوع أن يبادروا إلى ما يحول دونها. وفجأة يخرج ميشال الطير من جيبه ليقول إنه مستعد لجمع ملاحظات الجميع ووضعها في سياق يقود إلى إقرار المشروع في المجلس النيابي اللبناني. ومضى العبقري في سذاجته حتى حدود الاعتقاد في اليوم الثالث من زيارته بأن هناك فرصة لإقناع الأطراف المعنية بأن القبول بالحل من خلال المؤسسات في لبنان أقل ضرراً من اللجوء إلى مجلس
الأمن.
كان نيكولا ميشال يتكل من ناحية أخرى على روسيا. كان غيره مقتنعاً بأن الأمور ستسير بشكل أفضل مع وصول نائب وزير الخارجية الروسية الكسندر سلطانوف إلى بيروت ودمشق. التنسيق المسبق كان ينطلق من عبارة أن «المحكمة يجب أن تقر»، وأن تعديلات جوهرية على نظامها أمر غير متاح، وأن المهم هو ترتيب الإخراج، مع شيء من الضمانات الروسية بعدم أخذ الأمور دفعة واحدة إلى المواجهة. لكن سلطانوف الذي أكثر من الكلام على ضرورة الحوار اللبناني ــــــ اللبناني وعلى أهمية احترام الآليات الدستورية، لم يكن يغش الآخرين في قوله إن الأمور ستتجه نحو خطوة في مجلس
الأمن.
على أن الفريق الذي يظهر شكوكاً عالية في ما بعد المحكمة، ينطلق من أن عملية التسييس قائمة في كل شيء بما في ذلك التحقيق القائم حالياً. وبالتالي فإن الموقف من الملف بمجمله تدفع الفريق المعارض إلى القول إنه ما دام القرار الدولي بإقرار المحكمة قد اتخذ وعملية التسييس ستظل قائمة. فلماذا نسهِّل الأمر لهؤلاء، وهم ما يريدونه الآن جعل لبنان بأكمله مشاركاً في هذه العملية، فلماذا نعطيهم هذا الأمر. وهذا ما يعني برأي هؤلاء عدم الموافقة على آلية ميشال لإقرار المحكمة، والتمسك أكثر بقاعدة العمل السابق التي تقول إن قيام لجنة مشتركة بين فريقي المعارضة والموالاة تتولى مناقشة الأمر ضمن مشروع متكامل يهدف إلى تحصين الاستقرار الداخلي. ويصل الأمر ببعض المعارضين إلى القول: فليتحمل فريق 14 آذار مسؤولية انكشاف لبنان الآن، وليتحمل العالم مسؤولية خطوة بهذا الحجم، وبالتالي فإنه ليس متوقعاً من هذا الفريق تغطية العملية التي قادها ميشال
أخيراً.
وعليه، فإن صورة المحكمة كما تبدو، ستكون أكثر تعقيداً، لأن فريق المعارضة يرفض إقرارها بالشكل القائم حالياً، كما أن الفريق الوسطي الذي يقوده البطريرك الماروني نصر الله صفير يرفض جر لبنان إلى أزمة كبيرة بسبب المحكمة، وهو في هذا المجال يرفض اللجوء إلى الفصل السابع، الأمر الذي يعيد الأمور إلى نصابها الأساسي، الذي يقول إن ملفات لبنان الأساسية باتت رهن التوازنات الخارجية التي ترتبط الآن بمعركة واحدة اسمها المشروع الأميركي في العراق، ومن خلاله في المنطقة. لكن ليس في يد هؤلاء من حيلة غير مجموعة الرباعية العربية التي تعتمد سياسة ستودي بكل الاستقرار الذي عاشته بعض مناطق العرب.