strong>تعنايل ــ علي فوعاني
لمن يفتقد البيوت الترابية القروية القديمة، أصبح في إمكانه أن يزورها وحتى أن يعيش تحت سقفها وفق نمط الحياة الذي كان سائداً في زمن أجدادنا. فكرة جديدة قامت بها في البقاع جمعية Arc-en ciel التي تهتم بالبيئة والتنمية، وتقوم بمساعدة المهمشين اجتماعياً، من فقراء ومعوّقين ومدمنين، وتتخذ من تعنايل مقرّاً لها.
يستقبلنا بيار عيسى أحد أبرز مؤسسي الجمعية، ويبادر الى اصطحابنا في جولة في مقرّها مع شرح لأهدافها ونشاطاتها ليتركنا من بعد في عهدة فادي الفرزلي أحد المشرفين على مجمّع البيوت الترابية الذي يسمونه «الضيعة» التي هي أشبه بحي صغير في ضيعة لبنانية فلاحية قديمة. لقد راعى «مهندسو» المكان كل التفاصيل ليأتي نسخة طبق الأصل عن بيوت الأرياف في غابر الأزمان.
تتألف هذه القرية من بيتين بخمس غرف ومطبخ وحمامات وتنّور وقنّ للدجاج، تطل على بعضها فتبدو داراً واحدة مرصوفة أرضها بالحجر «الغشيم»، وتحيط بها «أفاريز» إسمنتية لجلوس الأهالي خارج منازلهم في أوقات الراحة، وبالقرب منها سبيل للمياه. على الحيطان الخارجية المطلية بالكلس عُلّقت أدوات الفلاح الزراعية كمذراة القمح والتبن والمنجل والزابورة وجازور الحطب، أو بعض الأدوات المنزلية كقوس المحدلة والزحف والمخباط، فيما تتناثر هنا وهناك بعض أواني المؤونة مثل «دست» القمح والبندورة والمعجن والغربال الجلدي وسوى ذلك من مستلزمات الحياة الفلاحية القديمة.
تعتمد الإنارة الخارجية في القرية على أعمدة كهربائية خشبية تحمل مصابيح قديمة لكي تعطي صورة موغلة في القدم. قبل الدخول نعرّج على «الليوان» (صالة أو بهو)، أو غرفة صبحية لاحتساء القهوة خارج البيت، حيث «الطّزر» (المقعد) الخشبي وبعض من كراسٍ خشبية مقشّشة، وليس بعيداً تنتصب «خابية» فخارية عملاقة لحفظ الزيتون المكدوس. أما في الداخل، فالغرف هي للجلوس والمنامة معاً، يتوسطها عمود خشبي يسند السقف الخشبي هو الآخر والذي تعلوه طبقة من التراب والقش. الستارة في الحائط تخبّئ «الليوك» لحفظ اللحف والمخدات، وبقرب «الليوك» كوارة للقمح، وماكينة خياطة يدوية في إحدى الزوايا، وفي كوّة في الحائط إبريق وجرّة فخاريان مملوءان مياهاً طازجة. في الحائط أيضاً مرآة حفر لها داخل الطين، وبقربها تعلّق صينية من القش. الأواني النحاسية والفخارية تتوزع بين رفّ علوي لصمدها و«خرستانة» في الحائط للاستعمال اليومي. وهناك «طبلية» خشبية أيضاً، بالإضافة الى طبق من القش لوضع الترويقة. ولا ننسى الموقد الحطبي الترابي الذي يقوم في إحدى زوايا المنزل وفيه آثار إضرام النار في زمن ليس ببعيد، بالإضافة الى «صوبيا» على الحطب تقوم في ركن من الغرفة. الإنارة هي بالفانوس القديم أو بالمصابيح ذات التمديدات الظاهرة ومفاتيح التشغيل القديمة الطراز. حتى القطة التي كانت تعيش داخل كل دار، أحدثت لها كوّة خاصة في الباب لتدخل وتخرج ساعة تشاء.
أُعدّ لهذا المجمّع مطبخ مشترك يتميز من غيره بكثرة الرفوف التي وضعت عليه، وأواني المطبخ، و«النملية» حيث توضع مراطبين القاورما والدبس وربّ البندورة والزيتون والكشك والمربيات والمكدوس وسواها، وقد علّقت على العمود الوسطي «شميلات» من البصل والثوم مثلما كانت تفعل ربّات البيوت قديماً. وستجد هنا حتماً جرن الكبّة والمدقة جاهزين لأي طلب، بالإضافة الى بابور الكاز ومحمصة القهوة والجاروشة. وبجوار المطبخ قن للدجاج يحوي 18 دجاجة يبيض معظمها يومياً، وفي إمكانك وأنت في داخل المطبخ أن تفتح كوّة صغيرة تؤدي الى «المبيضة» فتتلقف بيدك ما شئت من البيضات الطازجة لقليها بالقاورما على الموقد الحطبي. القصة هنا أبعد من نوستالجيا لذكريات مضت، بل هي استعداد واقعي لعيش تجربة حية. وبحسب مرافقنا، فكل التجهيزات والأواني هنا هي للاستعمال لا للاستعراض. وعلى من يريد ان يمضي ليلة أو أكثر ان يعيش التجربة بواقعيتها، فلا «هوت دوغ» ولا «همبرغر» ولا وجبات سريعة، بل أكلات من المطبخ اللبناني التقليدي القديم.
هذه القرية هي حديثة العهد إذ انتهى بناؤها في أيلول الفائت، وتوجد نية لدى القيّمين على هذا المشروع أن يشيدوا أقساماً جديدة للمساهمة في إعادة إحياء التراث اللبناني.