strong>ليال حداد
يفترض أصحاب المكتبات القديمة أن الكتب التي يبيعونها
هي التي تؤسس ثقافة حقيقية غير مقتصرة على اللغات والاستهلاك. هم يفرّقون بين عملهم وعمل غيرهم من «بائعي الكتب» بهدف الربح والتجارة، فمهنتهم «أرقى» من ذلك لأنهم رفضوا بيع مجموعات نادرة الى تجار لا يعرفون القيمة الحقيقية لما سيشترون. على رغم ذلك هم مهدّدون

  • لا غنى عنها لأنها تشكل نبض الحياة الثقافية في كل أنحاء العالم

    لم يشهد معرض الكتاب العربي الدولي الإقبال الذي اعتاده في السنوات والعقود الفائتة. ردّ كثيرون السبب إلى الأزمة السياسية التي يعيشها لبنان منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لكن إطلالة على عدد من المكتبات القديمة في شارع الحمرا ومتفرّعاته تؤكد أن مشكلة الكتاب أعمق من ذلك. هذا ما يقوله أصحاب عدد من المكتبات القديمة الذين عشقوا مهنتهم وكتبهم إلى حد تقريرهم من يستحق شراءها... حتى لو تسبب ذلك في إقفالها!؟
    البيع بالجملة!
    يتوقف أبو علي عن شرب قهوته ويدخل إلى مكتبته أو «مستودعه» كما بات يسميه، ويبدأ الحديث بكثير من الشغف عن كتبه التي يعيش معها منذ سبعة وخمسين عاماً. هي مهنته الوحيدة التي لم يمارس غيرها ولا يحب سواها.
    في «المستودع» تتوزع الكتب بطريقة غير منظمة إطلاقاً... تجدها على الرفوف، على الطاولة، على الأرض وحتى في صناديق من الكرتون. بعضها يعلوه الغبار وبعضها الآخر مُزّقت صفحاته. يدخل زبون يبحث عن كتاب «عشاق الرمل والمتاريس» لـ«عز الدين مناصرة»، فيجيبه أبو علي بطريقة فجّة: «أنا لا أبيع الكتب هنا بالمفرق، أبيع بالجملة».
    يخرج الزبون متضايقاً ومتفاجئاً من طريقة الرد. لكن أبو علي يشرح سبب غضبه: «فعلاً أنا لم أعد أبيع إلا بالجملة، وهذاالزبون يقصدني كل يوم بحثاً عن الكتاب نفسه». يأخذ نفساً عميقاً ليمتص غضبه ويكمل: «وضع المكتبات القديمة في بيروت وخارجها مزرٍ جداً فليس هناك من يسأل أو يهتم بالوضع الذي آلت إليه مكتباتنا والتي من المفترض أن تشكل ثروة ثقافية لما تحويه من مطبوعات نادرة لم تعد موجودة في الأسواق».
    يعترف أبو علي بحسرة ومرارة أن مكتبته الواقعة في منطقة كليمنصو لم تعد مكتبة بل «أصبحت مستودعاً يأتي التجار الكبار ويشترون كتبه ومن ثم يبيعونها في الأسواق الشعبية كسوق طرابلس أو سوق الأحد وغيرها».
    أما سبب هذا التردي الكبير فلا يرده أبو علي إلى الأوضاع السياسية: «السياسة طبعاً لها تأثيرها في كل ميادين الحياة ولكن الأهم هو أن هذا الجيل لا يقرأ. هو جيل متعلّم ولكن غير مثقف، والفرق كبير جداً». يقول بكثير من الحكمة.
    على عكس أبو علي يعتبر عمر سليمان صاحب مكتبة «جان دارك» أن المشكلة الأساسية للمكتبات عامةً والقديمة خاصةً متعلقة بوضع البلد «الناس خائفة وهناك تردٍّ للأوضاع الاقتصادية، فلا أحد يريد أن يدفع ثمن الكتاب، ويفضّل أن يدخر هذا المال لشيء آخر».
    لا يصنّف عمر سليمان مكتبته بالـ«قديمة» لأن تأسيسها لم يتجاوز اثنتي عشرة سنة، ومع ذلك تُعدّ من المكتبات القديمة لما تحتويه من كتب ومجموعات نادرة الوجود في الأسواق اللبنانية والعربية. وهو ما يؤكده لنا بعد جولة في المكتبة: كتب جديدة وأخرى نادرة وقديمة جداً. كلّها مقسّمة بطريقة تسهّل على الزائر اختيار الكتاب الذي يريده: هنا الكتب العربية الجديدة، وهنا القديمة. في وسط المكتبة الكتب الأجنبية ولا سيما الفرنسية، كل شيء منظّم على أكمل وجه.
    تختلف الآراء إذاً بين أصحاب المكتبات القديمة في سبب تراجع عملهم أخيراً، ومع ذلك تبقى النتيجة واحدة: لم يعد لهذه المكتبات الدور الريادي في الثقافة كما كان الوضع في السنوات السابقة.
    الثقافة... حياةكان العم ربيع يرتشف فنجان قهوته حين دخل إليه عجوز سبعيني وطلب منه كتاباً متعلقاً باغتيال الرئيس رفيق الحريري: «لدي أكثر من عشرة كتب عن الموضوع، أي واحد تريد»، يجيبه الزبون عن السؤال، فيعطيه الحاج الكتاب، ثم يدفع ويرحل. «حتى لو قرأ ألف كتاب عن الموضوع فلن يعرف من اغتال الحريري، الأمر أكبر من كل الحسابات الصغيرة».
    هذه هي ببساطة مكتبة العم ربيع الحانق على الحياة وعلى اللبناني وعلى الدولة: «اللبناني يشتري اليوم الكتاب استناداً الى جمال غلافه، وأنا في مكتبتي التي تجاوز عمرها ستين عاماً لا أبيع كتاباً لأن شكله جميل». يقول بغضب واضح معبّراً عن استيائه من «المثقفين الجدد»، كما تحلو له تسميتهم.
    يوجّه العم ربيع الكثير من الانتقادات الى المكتبات الكبرى، القديمة منها والجديدة: «معظم هذه المكتبات جعلت من الكتاب سلعة لا رسالة، وأصبحت تبيعه لربح المال لا لمساعدة العالم وتثقيفهم. معظم العاملين في المكتبات الكبرى لا يعلمون شيئاً عن الكتب. كل ما يعلمونه هو اللغات فيستعملونها للدلالة على أنهم مثقفون، ولكن الثقافة أمر آخر، الثقافة حياة». ينهي جملته منهكاً من كثرة غضبه.
    هذه المرة أيضاً يختلف عمر سليمان في تشخيصه للوضع السيء لهذا النوع من المكتبات: «في الماضي كان السياح يقصدون مكتباتنا للحصول على الكتب المهمة وإن كانت مستعملة، أما اليوم فلا سياح ولا من يحزنون، إضافة إلى أنه لم تعد للكتب المستعملة القيمة المطلوبة عند قرّاء هذه الأيام، وهو أمر محزن، إذ إن ثقافة كل قارئ مفترض أن تبنى على هذا النوع من الكتب».
    يصمت قليلاً وينتبه الى الصحيفة الموضوعة أمامه فينطلق في الحديث عن الإعلام ودوره في هذا المجال: «لا برامج ثقافية عندنا في لبنان لترشد المواطن إلى أهمية الكتاب، فالصحيفة تعتبر الكتاب منافساً لها ولا تريد التشجيع على القراءة، وهي تفضّل أن تتحدّث عن المواضيع التي تزيد من أرباحها بدل الحديث عن المطالعة والمكتبات القيمة الموجودة في بيروت وخارجها». يأخذ نفساً عميقاً ليكمل حديثه: «أما التلفزيون فهو أساس البلاء إذ إنه خدّر عقل البشر لكي لا يفكروا».
    نبض المدينة
    صورة للمسيح تجاورها صور كل من الرئيس جمال عبد الناصر وسمير القنطار وغسان كنفاني. هذه هي مكتبة عياد الواقعة في شارع الحمرا، وتحديداً خلف مقهى الويمبي. ليس في إمكان زائرها التحرك بسهولة. فالكتب تملأ المكان والمساحة وأي حركة خاطئة قد تؤدي إلى سقوط مئات الكتب من مكانها. لا يشكو عصام عياد من الوضع الحالي بقدر ما يفعل أصحاب المكتبات الأخرى. فمكتبته مشهورة جداً في كل بيروت وهو مقصود من مختلف المناطق، غير أن الوضع ليس تماماً كما كان عليه في السنوات السابقة: «البيع انخفض بنسبة كبيرة منذ سنتين إلى اليوم، فالكتاب لم يعد أولوية عند اللبنانيين»، ومع ذلك لا مكان للتشاؤم عنده: «الوضع سيعود إلى ما كان عليه، فهذا النوع من المكتبات هو نبض الحياة الثقافية في كل أنحاء العالم ولا غنى عنها».
    ولكن لا يوجد أي جهة رسمية أو خاصة عمدت إلى مساعدة هذه المكتبات على الاستمرار في عملها في ظل انعدام الموارد المالية الكافية لشراء الكتب من دور النشر مباشرة وفي ظل انخفاض المصادر الأخرى، وخاصة تلك التي كانت توفّر الكتب المستعملة لهذه المكتبات.
    «إن كان الأمر يرضي وزارة الثقافة والجمعيات المعنية بهذا الشأن، فماذا في إمكاننا أن نفعل؟»، سؤال يطرحه ربيع الحاج الذي ينتظر نهاية الشهر ليقفل مكتبته نهائياً ويسافر الى أستراليا حيث يعيش أولاده: «لن أحمل معي إلا بعض الكتب فهذا كل ما أعطاني إياه بلدي».
    هكذا، تتجه بعض هذه المكتبات إلى إقفال أبوابها، وبعضها الآخر مهدّد بذلك في حال استمرار الإهمال في حقها. هذا ما يعترف الجميع، ويلخص أبو علي الوضع بقوله: «بيع الأحذية بات أفضل من بيع الكتب وهذا أمر محزن».


    مناجم الكتب

    «عالم المعرفة»، «إبداعات عالمية»، «الفكر العربي»، «مجلة العربي»، «مواقف»..
    هذه المجموعات القيّمة جداً والمطلوبة بكثافة في العالم العربي وفي لبنان موجودة بكل أعدادها في المكتـــــــــــبات الـــــــــــقديمة أو تلك التي تــــــــــــبيع الكتب المستعملة، إضافة إلى روايات وكتب سياسية بطبعتها الأولى.
    من هنا أُطلق على هذه المكتبات اسم «مناجم الكتب» التي توجد فيها أحياناً كتب قديمة لم تعد موجودة حتى في دور النشر التي صدرت عنها.
    ويروي ربيع الحاج أن أحد تجار الكتب العرب عرض عليه أن يـــــــــشتري منه مجموعة عالم المعرفة بكل أعدادها بمبلغ كبير جداً تجاوز خمسين ألف دولار، لكنه رفض ذلك «لأن قيمة الكتاب أهم من المال»، حسب قوله.
    «لماذا إذاً يبيع الأعداد القديمة من هذه المجموعة بأسعار مرتفعة؟»، نسأله فيجيب بثقة كمن يكرّر إجابته للمرة الألف: «إن أسعاري منخفضة جداً مقارنة مع بقية المكتبات، والأشخاص الذين يملكون هذه المجموعات كاملة قليلون جداً».
    الوضع نفسه ينسحب على بقية المكتبات، كلهم يروون أنهم تلقّوا عروضاً خيالية تقدّر بآلاف الدولارات مقابل أي مجموعة من المجموعات الثقافية العربية، إلا أن أياً منهم لم يوافق على بيع مجـــــــــــموعاته لتاجر كبير.
    «لن يعرفوا قيمة الكتاب الفعلية، لذا أفضّل أن أبيعها بالمفرق لأشخاص يقدّرونها ويستفيدون منها ثقافياً لا مادياً»، يقول أبو علي منتقداً تجار الكتب، واصفاً المجموعات التي يملكها بـ«الثروة الثقافية» إلى حد أنه خاف خلال العدوان الاسرائيلي الأخير «أن تقوم اسرائيل بقصف الحمرا والمناطق المحيطة بها فقمت بتهريب هذه المجموعات الى بيتي. وكذلك كنت أفعل أثناء الحرب اللبنانية، إذ كنت أخبّئ هذه الكتب قبل أن أوفّر حماية أولادي وعائلتي».