جان عزيز
لم تتوقف غالبية وسائل الإعلام اللبنانية عند الرد الذي صدر عن ميشال عون على كلام ديفيد ولش، مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى، أو على الأقل، الثابت أن الوسائل الإعلامية التي أبرزت كلام ولش في 18 نيسان الجاري، وخصوصاً «قلقه حيال مسيحيي لبنان»، لم تبرز بالقدر نفسه رد عون، والأهم أن خلفيات السجال وما بين سطوره لم تقرأ كفاية.
في هذه المسألة يقول المطلعون على حيثياتها إن فيها نقاطاً آنية محددة، ومحصورة بين طرفي الكلام والرد عليه، لكن فيها أيضاً نقاط عامة تتعلق بالنظرية والتصور والقراءة المفترضة للأوضاع، بين واشنطن الإدارة من جهة، والمزاج المسيحي العام في لبنان، من جهة أخرى.
في الشق الآني، يتابع المطلعون، كان لافتاً تركيز رد عون على شخص ولش. وهو تركيز يشرحونه انطلاقاً من عوامل عدة. أولها الدور الذي أداه ولش في ربيع 2005، في تغطية «التحالف الرباعي» الذي قام في بيروت على قاعدة تهميش المسيحيين، وإعادة تركيب سلطة أحادية، ولو كان الأمر بثمن مراعاة بعض «المصالح السورية». ويعتقد هؤلاء أنها لم تكن مصادفة أن يقسم ولش اليمين ويتسلم منصبه، في اليوم نفسه الذي شهد «إبرام» التحالف المذكور في بيروت، في 18 آذار 2005.
والدور نفسه اتهم ولش بتنفيذه، لجهة غض النظر عن بقاء قانون الحريري ـــ كنعان للانتخابات النيابية، وتكريس صفقته في 14 أيار من العام نفسه، رغم المساعي الأميركية المعاكسة التي قام بها قسم آخر من الإدارة الأميركية، وفي طليعتهم آنذاك، المساعد الأخير لوزيرة الخارجية، سكوت كاربنتر الذي زار بيروت في نيسان 2005، مطالباً أركان المعارضة يومها، بجعل قانون جديد للانتخابات النيابية، أولوية مطلقة في أجندتهم.
غير أن أقطاب 14 آذار الذين كانوا قد انضووا يومها في التحالف الرباعي، بدوا مطمئنين إلى رفض نصيحة كاربنتر، ومتأكدين من موازنتها أميركياً وفرنسياً. وهو ما قيل لاحقاً إنه تمّ بالاستناد إلى أدوار مضادة، منها لولش في واشنطن، وللكثيرين في باريس.
ويؤكد المطلعون أنفسهم أن هذه الأدوار عادت فانسحبت على تركيب حكومة فؤاد السنيورة، وتهميشهم، كما على بيانها الوزاري الشهير، لتأتي النتيجة قبولاً أميركياً وفرنسياً، بمراعاة النظام السوري، وتغطية سلاح «حزب الله» على حساب الشراكة المسيحية المتوازنة في سلطة ما بعد «ثورة الأرز».
وفي الشق الآني نفسه، يميل المتابعون أيضاً إلى تحميل ولش وما تبقى من فريق «العروبيين» في وزارة الخارجية الأميركية، مسؤولية هذا الأداء، نظراً إلى ماضٍ ثقيل في هذا المجال.
إذ إن ديفيد ولش نفسه كان مسؤولاً عن مكتب سوريا في وزارته في واشنطن، عامي 1981 ــ 1982، وعن مكتب لبنان، بين 1982 و1983، كما كان رئيس القسم السياسي في سفارة بلاده في دمشق بين 1984 و1986، مع ما تحمل تلك الفترات من دلالات سيئة، لجهة علاقة الإدارة الأميركية بمسيحيي لبنان خصوصاً، وبالوضع اللبناني برمته عموماً.
ولا ينسى المتابعون أن ولش كان أحد المسوّقين للحرب على العراق، في زاوية القضاء على أسلحة الدمار الشامل التي يملكها نظام صدام حسين، وقد أدى دوراً بارزاً في الدعاية لذلك، من موقعه السابق، مساعداً لوزيرة الخارجية الأميركية لشؤون المنظمات الدولية. وتعدّ شهادته في الكونغرس الأميركي في 23 آذار 2000، «مرجعاً» ووثيقة في أدبيات هذا التسويق. كما أنه أدى دوراً بارزاً في تطبيع العلاقات الأميركية ــ الليبية بعد «صفقة لوكربي»، وكان من أوائل زوار طرابلس الغرب الأميركيين في 14 حزيران 2005، في إطار «الصفح» عن معمر القذافي وإسقاط مبدأ «الديموقراطية لليبيا».
لكن الأهم في الشق الآني من السجال بين عون وولش، هو التحدّي الذي ساقه الجنرال، حول كشف محاضر لقاءاته في واشنطن في تشرين الثاني 2005. والتحدّي المذكور ليس مجرد «إفحام» لاتهام ولش بالسعي إلى طموحات رئاسية وحسب، بل يكشف أكثر من ذلك بعض المستور الدبلوماسي في تلك اللقاءات. إذ يؤكد المتابعون أن في تلك المحاضر سؤالاً واضح المغازي عن الانتخابات الرئاسية المقبلة أو الممكنة في لبنان، وجواباً صريحاً لعون: «هذه مسألة نبحثها نحن اللبنانيين في ما بيننا».
يبقى الشق المؤشر في السجال المذكور، إلى العلاقة العامة بين بعض الإدارة الأميركية وأكثرية مسيحية متبدّلة منذ أكثر من ثلاثة عقود ونيف. في هذا المجال يبدو موقف عون مندرجاً في سياق مسيحي تاريخي وتقليدي، لم تخرقه إلا استثناءات قليلة خلال حقبة طويلة، وهو سياق بدأ مع بشير الجميل قبل زيارته الشهيرة إلى واشنطن، ولم ينته مع البطريرك الماروني في زيارته المماثلة في شباط 2001. لكن دائماً كانت التطورات تأتي لتعيد التقارب بين الطرفين ولو بعد سلسلة من التضحيات والآلام.
ففي عام 1982 عادت واشنطن و«اقتنعت» ببشير، وفي عام 2005 عادت واستقبلت سيد الصرح، وخبرة عون نفسه في هذا المجال ليست بعيدة عن هذا النمط، بين «حرب» بعض واشنطن على قانون محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية سنة 2002، وعودتها إلى تبنيه سنة 2004، بكامل مندرجاته، لا بل حتى الذهاب أبعد من السيادة والمحاسبة. فمقولة أنه «في النهاية لا يصح إلاّ الصحيح»، تبدو قابلة للتعميم في الخارج أيضاً.