نقولا ناصيف
بعد إخراجها المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري من التجاذب الداخلي، وقد كسبت معركتها عليها، باتت قوى 14 آذار أكثر حرية في طلب الحوار مع المعارضة أو الإعراض عنه، من غير أن تشعر بأنها مرغمة على دفع ثمن سياسي باهظ. كانت تلك حالها مع مشروع المحكمة الدولية: إقرارها في مقابل تعديلها وتأليف حكومة وحدة وطنية بثلث زائد واحداً للمعارضة.
في الأيام الأخيرة استعادت قوى 14 آذار وتيرة الحضّ على الحوار، وعلى تسوية تكون انتخابات رئاسة الجمهورية جزءاً رئيسياً منها، لكن من موقع مختلف: تريد حواراً ولا تستعجله بشروط المعارضة. تحدوها على ذلك معطيات، منها:
1 ــــــ استمرار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في الحكم رغم وفرة الضغوط التي تعرّضت لها ولا تزال، من غير أن يصيب تماسك قواها تفكك. وهي مرشحة للبقاء حتى انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود للإشراف على انتخاب خلفه. تالياً لم يعد الخوض في تأليف حكومة جديدة ذا أهمية، لا بالنسبة إلى الغالبية المتمسكة بثلثي حكومة السنيورة، ولا بالنسبة إلى المعارضة التي تريد منها إرساء توافق مسبق على الاستحقاق الرئاسي. الأمر الذي يبدو، حتى إشعار آخر، متعذراً.
وخلافاً لاعتقاد أفرقاء معارضين، في وسع حكومة الغالبية الاستمرار في ممارسة صلاحياتها واتخاذ ما شاءت من قرارات ومراسيم لا تتطلب مثولها أمام مجلس النواب، متسلحة بالمادة 56 من الدستور حتى النصف الثاني من أيلول المقبل.
2 ــــــ تلويح الغالبية بإدارة انتخابات رئاسة الجمهورية منفردة في تشرين الثاني، وانتخاب رئيس من صفوفها في حال تعذُّر الاتفاق مع المعارضة على تسوية لا تجعل قوى 14 آذار تتخلى عمّا لم تتخلّ عنه قبلاً.
لكن مغزى تهديدها بخوض المعركة، بنوابها الـ70، يكمن في رغبتها تعطيل أي تدخّل سوري فيه، مباشراً كان أو غير مباشر عبر حلفاء دمشق من خلال استخدام نصاب الثلثين ذريعة لذلك.
وكما نجحت قوى 14 آذار في إخراج المحكمة الدولية من تأثير سوريا عليها في التجاذب اللبناني الداخلي، فإن خطة مماثلة على صعيد استحقاق 2007 تمكّن هذه القوى من تقديم برهان إضافي على نجاحها حتى الآن في تقليص مساحة واسعة من نفوذ سوريا في لبنان، في المؤسسات الدستورية والأمنية والإدارية. ويبقى تقييد مقدرتها على التدخّل في آخر الاستحقاقات المؤجلة منذ 14 آذار 2005.
3 ــــــ ليس بين أقطاب الغالبية مَن يتحدّث عن حوار خارج سياق تسوية على الاستحقاق الرئاسي. ومع معرفتهم بأنه ليس في وسعهم، منفردين، إدارة انتخابات 2007، أياً تكن وطأة التهديد بردّ الفعل الذي يلوّح به حزب الله، فإنهم يدركون أن ما يحول دون استئثارهم بالاستحقاق هو نفسه الذي حال دون تجاوزهم رئاسة مجلس النواب، وصلاحيات الرئيس نبيه بري في دعوة البرلمان إلى الانعقاد، الأمر الذي يرتبط عندئذ بصلاحيات الطوائف أكثر من كونه اشتباكاً سياسيـــــــــــاً. ولم يصحّ ذلـــــــــــك على المحكمة الدولية، غير المتصلة مباشـــــــــــرة بصلاحيات الطوائف في الحكم.
وقد يكون تهويل الغالبية بالاستئثار بالاستحقاق، الذي يعبّر عنه قطب بارز في قوى 14 آذار، هو سطح المواجهة العلنية التي تحمل كلاً من طرفي النزاع على المغالاة في عرض عضلاته وتلويحه بالأسلحة التي يملك. واستناداً إلى ما سمعه زعماء بارزون في قوى 14 آذار، في أكثر من مناسبة، من رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري عن أنه يقف وراء بطريرك الموارنة في الاستحقاق الرئاسي.
وعلى غرار العبارة التي سبق أن قالها بري في قانون الانتخاب، تبدو الكلمة الفصل في الاستحقاق متروكة لسيد بكركي.
ورغم ما أعلنه، في البيان الشهري لمجلس الأساقفة الموارنة يوم 4 نيسان، من حضّ الجميع على المشاركة في الاستحقاق الرئاسي، لم يقل البطريرك مار نصر الله بطرس صفير بعد كلمته في الخيار الذي يقتضي سلوكه إذا أحجمت المعارضة عن إكمال النصاب الدستوري لجلسة انتخاب الرئيس الجديد.
وإلى الآن يبدو موقف بكركي غامضاً بإزاء هذا الجانب الخطر من التلاعب بالاستحقاق عند هذا الفريق أو ذاك. كما لم يقل البطريرك إن التئام البرلمان بـ70 نائباً هو الخيار الملائم الذي يؤيده تفادياً لسابقة تضعف الحدّ الأدنى من الإجماع الذي يقتضي أن يحيط بانتخاب الرئيس الماروني. ولا هو في طبيعة الحال يتساهل حيال افتعال فراغ دستوري.
وتبعاً للقطب البارز في قوى 14 آذار، فإن أي خوض مبكر في الاستحقاق الرئاسي، تفادياً لخيار الانفراد والاستئثار به، يلازم الاتفاق على برنامج سياسي يمثل مرحلة السنوات الست المقبلة، الأمر الذي يحتم وجود رئيس جديد للجمهورية غير منحاز، وفي وسعه أن يكون ضامـــــن توازن القـــــوى بيـــــن المؤسســـــات الدســـــتورية، وبين قوى الموالاة والمعــــــــــارضة، وفي أحسن الأحوال يعبّر عن الضمان الفعلي لأي ائتلاف حكومي بين طرفي النزاع. وهو الدور الذي يفتقر إليه الرئيس الحالي، وقد جهر علناً بموقعه في الصراع، على أنه في صف فريق المعارضة، وعلى طرف نقيض من فريق 14 آذار.
أضف أنه أخـــــرج نفـــــسه من الســـــلطة التنـــــفيذية مـــــذ اعتـــــبر حكومـــــة السنيـــــورة غـــــير شرعيـــــة وغـــــير دستورية. لكن البحث عن رئيس محايد لا يستثني بالضرورة صنفاً محدداً من المرشحين في قوى 14 آذار، من أولئك الذين يحظون بتقدير سياسي واحترام أخلاقي، في وسعهم الاضطلاع ــــــ وإن في قوى 14 آذار ــــــ بدور الرئيس الضامن بين القوى التي يتألف منها مجلس النواب.
وقد يكون مغزى هذه الإشارة، بحسب القطب البارز، أن قوى 14 آذار وإن كانت تدعم مرشحاً من صفوفها، بنصاب النواب الـ70 أو نصاب الثلثين، لا تضع مرشحيها في منزلة واحدة كأسنان المشط.