فداء عيتاني
عشــرة أسبــاب تغــري «القــاعــدة» بـ«السياحــة الجهــاديــة» في بــلاد الأرز

يختفي نبيل رحيم عن الأنظار، بعدما كان قيد أنملة من الوقوع في أيدي رجال الأمن السعوديين في مطار جدة بتهمة الانتماء الى تنظيم «القاعدة»، فيما ينام أهالي عشرات المعتقلين في وزارة الدفاع على أمل إطلاق أبنائهم اليوم أو غداً، علماً أن الإجراء سيطال أربعة أو خمسة معتقلين على أبعد تقدير.
«هل سيفيد ما تنشرونه أولادنا؟» تسأل والدة أحد المعتقلين في القبة. «شقيقي تعرض لتعذيب ولشتائم طالت دينه. يريدوننا أن نبتعد عن ديننا»، يقول شقيق أحد المعتقلين بعدما شاهد علامات التعذيب على جسد أخيه الأكبر المعتقل. «قال إنه ذاهب ليصلي بعدما استدعته الاستخبارات. من يومها لم أره ولا أعرف عنه شيئاً»، يقول رجل في نهاية العقد الخامس تشي لحيته الخفيفة المهملة وثيابه الرثة بواقعه الحياتي. بينما يغالب رجل ستيني دموعه وهو يتحدث عن ابنه المعتقل الذي كان يعمل أكثر من 14 ساعة يومياً ليعيله ويعيل عائلته.

أكثر من شبكات أقل من تنظيم

يجلس أحد المسؤولين الأمنيين السابقين في منزله في بيروت «لنتفق أولاً على تعريف القاعدة: إنها نمط تفكير، وأسلوب عمل، وتمويل كبير»، لافتاً الى توافر كثير من هذه العناصر في المجموعات التي يتم التعرف بها أو اعتقالها.
كان بسام حمود يتجول في السوق الحرة في مطار جدة في شهر رمضان الماضي، حين وصل الشخص السعودي الذي كان بسام ينتظره. لاحظ الأخير تحركاً لرجال الأمن. رفيقه نبيل رحيم يتسوق في مكان قريب. نظر بسام نحو نبيل وبإشارة خفية تمكن من إيصال الرسالة إليه: نحن في خطر. اعتقل الأمن السعودي بسام، وفر نبيل ليظهر... في طرابلس، قبل أن يتوارى مجدداً.
في منتصف آذار تبدأ حملة اعتقالات في عاصمة الشمال، بعد طلب سعودي من الأجهزة الأمنية اللبنانية التي كانت تراقب هواتف نبيل رحيم. الحصيلة: عشرات المعتقلين في مناطق القبة، باب التبانة، التل، محيط البداوي، وداخل أحياء طرابلس ومساجدها.
يُدهش الأهالي من «تعاون نادر بين استخبارات الجيش وفرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي»، وتندهش الأجهزة الأمنية لاعتقالها مجموعات أخرى، ولتداخل المجموعات مع «فتح الإسلام»، فيما تجتاح حملة شائعات المدينة من أقصاها الى أقصاها، وصولاً الى المناطق المحيطة بها والى عكار. للطرفين مصلحة في إطلاق الشائعات، إلا ان ما بلغته الحملة أكبر من إرادة الجانبين: أنباء كاذبة عن اعتقالات هنا وهناك، يتصل أحد أئمة المساجد من السلفيين بـ«المعتقلين» المفترضين، فيؤكد هؤلاء أنهم في منازلهم، بينما تتوافد على منزله عائلات تطالبه بالتدخل لإطلاق أبنائها. ويروي الشيخ، الذي يطلب عدم ذكر اسمه، ما سمعه بنفسه عن أنه شوهد وهو ينقل نبيل رحيم في سيارته: «طبعاً أعرف نبيل رحيم كما تعرف أنت زميل لك في الصحيفة، لكني لم أشاهده منذ سمعت أنه عاد من المملكة السعودية».
يعتقل الجيش عمر العلي وغيره فيما البحث جارٍ عن عادل عدنان. تتعدد الأسماء. هؤلاء كانوا يشترون أسلحة من تاجر أسلحة لا علاقة له بالإسلاميين حين «تعثّرت بهم» الأجهزة الأمنية فاعتُقل بعضهم وفرّ آخرون، الصفقة كانت تمر من مخيم نهر البارد الى داخل طرابلس.

جنة عدن للمجاهدين

«لا أحد يمكنه تربية الإسلاميين»، يتحدث أحد المسؤولين العسكريين السابقين في الشمال، الذي كان في مرحلة ما يقود أكثر من سبعة آلاف عسكري غير نظامي. يستخدم مصطلح «تربية» العامي، ليضيف أن الإسلاميين «يمكنهم تربية الدولة والأطراف الذين يحاولون استخدامهم»، وأن من السهل على الإسلاميين التقاطع مع سياسات إقليمية والانسحاب منها لاحقاً بعد أن يستفيدوا منها الى الحد الأقصى.
القائد السابق فقد من مناصريه الإسلاميين 600 شاب دفعة واحدة في إحدى المعارك، شاهدهم يسحقون تحت جنازير الدبابات ويموتون في مواقع عسكرية مرتجلة، ورأى الطائرات الحربية تنقضّ عليهم وتقصفهم في الجبال المحيطة بطرابلس، وفي الجرود التي هربوا إليها، قبل أن تسلمه إحدى المجموعات الفلسطينية الى الجيش السوري حيث أمضى من عمره ما يكفي ليكبر أبناؤه ويشبّون، فعاد متخلّياً عن النضال من دون أن يتخلى عن الأصدقاء القدامى.
كيف يمكن تنظيم «القاعدة» أن يقاوم الإغراء اللبناني؟ يسأل الرجل. وفي سياق النقاش تبرز عشرة «إغراءات» تجتذب «سياح القاعدة» المحليين والعالميين الى لبنان، وهي الآتية:
1 ــ لبنان مكشوف أمنياً، فحملة الاغتيالات التي بدأت منذ محاولة اغتيال مروان حمادة ترفع الغطاء الأمني عن كل البلد وأمام كل الأطراف.
2 ــ يعيش لبنان في مرحلة صراع تكاد تكون وجودية مع اسرائيل وسط حرب تطال كل مناطقه، ويصبح السلاح متوافراً وحجة اقتنائه مبررة.
3 ــ يكبّل القرار 1701 المقاومة، فيما تصل قوات الطوارئ الدولية بأعداد تفوق قدرة البلاد على الاحتمال والاستيعاب، نحو 15 ألفاً من القوات الأجنبية ينتشرون براً وبحراً، مع تزايد الحديث عن تكليفهم مراقبة الحدود مع سوريا.
4 ــ وضع ملتبس حول قاعدة القليعات العسكرية التي تُوسّع، وتتردد أنباء عن إمكان تحوّلها قاعدة عسكرية أميركية أو استضافتها انتخابات رئاسية تنظمها «الأكثرية».
5 ــ يشهد البلد انقساماً سياسياً حاداً واتهامات متبادلة بالتعاون مع الغرب أو الشرق أو أطراف أخرى من ضمنها إسرائيل.
6 ــ توتّر سنّي ــ شيعي، وعمليات إطلاق نار وتسلّح فردي، في الحد الأدنى، فيما يلقى مناخ التحريض المذهبي بين السنّة والشيعة رواجاً، لا بل تشجيعاً، من أطراف سنية منفتحة.
7 ــ حالة القمع التي لا تزال ماثلة في ذاكرة أبناء الشمال منذ ما قبل اشتباكات الضنية وعمليات الاعتقال المتتالية.
8 ــ وجود كوادر إسلامية، لبنانية وفلسطينية وسورية، تقاتل في العراق، وبعضهم عاد الى لبنان في فترات تمتد من سقوط بغداد الى اليوم الحاضر.
9 ــ نزاع سياسي داخلي مرشح للتوسع من دون آفاق واضحة للحل.
10 ــ شعور بالخذلان لدى شبان السنّة الناشطين منذ الانتخابات النيابية وصولاً الى الخامس من شباط (غزوة الأشرفية) وإلى أحداث جبل محسن وتخلّي المرجعية السنية السياسية عمّن شاركوا في أحداث الأشرفية أو في اشتباكات جبل محسن، وعن المصابين في هذه الأحداث كما عن المعتقلين، إضافة الى عدم تسديد مبالغ مالية تعود الى مرحلة الانتخابات كان قد وُعد بها مفاتيح محليون وسائقون عموميون وغيرهم.
كل ما سبق يجعل أي عاقل من قادة تنظيم «القاعدة» يبحث جدياً في الاستثمار في لبنان، «أرض الفرص المقبلة للنصرة والجهاد».

عولمة الجهاد

يروي أحد المشايخ في طرابلس كيف انفرط عقد مركزية «القاعدة». بعد الضربات التي وُجّهت إليها تحركت مفاصل الحركة التنظيمية الهائلة، فشجعت المبادرات الفردية للشبان وباركتها، وتركت الكوادر الوسطى تعمل على هواها، وتبنّت من الأعمال ما تراه يخدم مصلحتها ويتوافق مع «دفتر شروطها»، فأمدّت الشبان بأسباب العمل التقني واللوجستي، وحسّنت طرق إيصال الأموال وموّهتها، وتأقلمت مع الظروف، واستعادت كل أدبيات النضال ومقاومة القمع، واستفادت من الفقراء في كل مكان من العالم الإسلامي ذخيرةً للعمليات الاستشهادية والعمل الميداني، وتعايشت مع كل أصناف التقاطعات الصغيرة، مع إيران وسوريا والبعث العراقي، والعشائر في العراق (قبل أن تنقضّ عليها هذه الأخيرة)، وحتى مع أجهزة الأمن التي تراقبها.
«القاعدة» انتشرت في كل بقاع الأرض، وحملت ابن تيمية مرشداً لها. صارت مطابقة أيام غزوات بغداد المغولية و«تعاون الشيعة مع الغزاة» مرادفةً لما يراه أعضاء «القاعدة» من أحداث اليوم، وفي تبسيط للمشهد السياسي أصبح الشبان يرون في كتب ابن تيمية مرشداً للحرب العالمية الدائرة ضدهم.
وبعدما كانت أجهزة الأمن اللبنانية تنفي وجود «القاعدة» على أراضي لبنان، باتت تعتبرها «قاعدة مزيفة» قبل أن تنعطف وسائل الإعلام التابعة لفريق الأكثرية (المرجعية السياسية لهذه الأجهزة الأمنية) وتبدأ بحملة بحث عن أسباب انتشار «القاعدة» في لبنان وخلفياته.
تصل إلى أجهزة الأمن اللبنانية طلبات محددة للتعاون من السعودية أو الولايات المتحدة أو غيرهما، للقبض على مجموعات أصولية يمكن أن تتبع «القاعدة» أو للتحقيق في أمرها. «القاعدة» هي مجموعات الشبان في الأحياء الذين يشترون القهوة بـ250 ليرة ويتعاملون مع الجلوس في المقهى الضيق والعابق برائحة السجائر في باب التبانة بصفته الترف الوحيد الممكن. «القاعدة» هي شاب يبيع عصير البرتقال في الشارع ويتدرب على المهارات البدنية والقتالية الصينية أو اليابانية، وهي الشاب الذي يبيع العطورات الخالية من الكحول ويتعلم القراءة من القرآن وحده، وهي كل من أمكن مدّه ببضعة آلاف من الدولارات ليشتري القليل من التكنولوجيا والسلاح.
يجلس الشبان الفقراء في أحياء بُنيت عشوائياً، وفي المنازل الفقيرة التي لا ترى في محيطها من يسير وهو يضحك. الأطفال يلعبون الكرة ليلاً وهم متّسخون حدّ المرض، وبين جلسات هؤلاء الشبان يرتفع السخط على حال لا تتغير. فقرهم لا فكاك منه، وقلة تعليمهم لا مهرب منها إلا علوم الدين في المساجد، ولباسهم السيء حلّه الوحيد العودة الى اللباس الإسلامي للسلف الصالح، وكثرة مسؤولياتهم في الحياة الدنيا حلّها السحري في الحلم بالشهادة في سبيل الله. يتحلّقون حول شاب أكثر منهم خبرة وتجربة وأكبر منهم عمراً، يروي لهم تجاربه في الحرب الأهلية حين قاتل ضمن صفوف حركة التوحيد، وكيف كان الشهداء حين يسقطون يبرز النور من وجوههم، ويروي لهم أعواماً اختفى فيها بعيداً من لبنان، يوم كان مطارداً من قبل الجيش السوري، ويخبرهم عن أحوال العراق، يبكي الشبان ويضحكون بصمت في مساجد فقيرة، وينزلون الى طرابلس من مناطقهم المهملة الى عاصمة شمالية مهملة هي أيضاً ليصلّوا في مساجد يحترمون خطباءها.
ثم تبدأ حملة الاعتقالات، يختفي الشبان، فيما الأهل لا يعرفون هل هم فارّون أم معتقلون؟ هل عادت موجة الهروب الى جرود الضنية أم يعتقلهم الجيش ولا يُقرّ؟ يبقى الأهل في حيرة من أمرهم أكثر من أسبوعين، ثم تكرّ الأيام وتعود حملة اعتقالات أخرى. إذاً، أهي «القاعدة» تدخل الى لبنان، أم الشبان الذين سئموا حياة الذل والفقر والجهل ذهبوا بأنفسهم الى طريق «القاعدة» من دون أن يعرفوا ما إذا كان في نهاية هذه الطريق أي لقاء أو اتصال مع الشيخ أسامة بن لادن والدكتور أيمن الظواهري.




اجزاء ملف "«القاعدة» في لبنان... بداية الصراع على هوية طرابلس":
الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع