عفيف دياب
  • أهالي البقاع يفتقدون زيارات السياسيّين وأحزاب تعود إلى العمل بعد غياب

    تغيّرت منطقة البقاع كثيراً منذ الانسحاب السوري قبل سنتين، وانقلب المشهد الذي طبع «حيوات» البقاعيين مدى ثلاثين سنة رأساً على عقب. هي تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية التي طاولت حياة المواطنين، كما السياسيين، في كلّ من عنجر والمصنع ومختلف قرى البقاع

    سنتان مرّتا على الانسحاب العسكري والاستخباري السوري من سهل البقاع. وسنتان مرّتا على «موت» وحدة المسار والمصير و... مهرجانات أعياد سوريا. لم تعد احتفاليات «الحركة التصحيحية» تجد مكاناً لها في قاعات قرى ومدن البقاع وساحاتها، وذكرى حرب «تشرين التحريرية» التي قادها «القائد الخالد» أصبحت أثراً بعد عين، وميلاد البعث لم يعد «يُبعث» من البقاع.
    سنتان مرّتا أيضاً على غياب «الضجيج» السياسي والأمني عن مدينة عنجر البقاعية. هذه المدينة التي حوّلتها الاستخبارات السورية مدى ثلاثة عقود إلى مصدر للقرار السياسي والأمني وحتى الاقتصادي ــ الاجتماعي في لبنان.

    زيارات «موقوتة»

    هدوء تام يخيّم اليوم على مدينة عنجر التي نجحت في تعريف عدد من قادة لبنان بسهل البقاع «النائي» في «مجاهل» الجمهورية، كما كان بالنسبة إلى البعض. ولم تعد المدينة ومطاعمها تستقبل كبار ساسة لبنان وصغارهم وقضاته ورجال أمنه.
    فمنذ يوم الثلاثاء 26 نيسان 2005، الساعة الواحدة والنصف ظهراً، أفل نجم عنجر بعدما خرج رستم غزالي من لبنان عابراً نقطة المصنع الحدودية مع آخر جندي سوري. أُقفلت أبواب عنجر وغاب زوارها الذين أصبحت لأكثريتهم «مشاهد» سياسية أخرى...
    منذ عام 1976، ومع بدايات الدخول السوري إلى لبنان، تحولت عنجر إلى مقر استراتيجي للقيادة الأمنية السورية، أو مقر جهاز الأمن والاستطلاع الذي تعاقب على رئاسته ثلاثة ضباط فقط خلال 30 سنة، هم المقدم محمد غانم (1976ـ1982) والعقيد غازي كنعان (1982ـ2002) الذي رُقّي إلى رتبة عميد فلواء فوزير داخلية سوريا قبل أن «ينتحر»، وأخيراً العميد رستم غزالي (2002ـ2005). واستطاع هؤلاء الضباط إحكام سيطرتهم على لبنان، وتحولوا إلى مرجع أول يبتّ كل شؤون لبنان، وبنوا تحالفات مع لبنانيين أصبحت لاحقاً ولاءات شخصية لا مؤسساتية وأصبح «الأمن والاستطلاع» دولة ضمن الدولة.
    واستخدم جهاز الأمن والاستطلاع أكثر من 42 منزلاً في عنجر موزعة على 68 عقاراً كانت مخصصة لكبار الضباط. فبالإضافة الى المقر الرئيسي، كانت هناك مقار لأبرز الضباط، منهم رئيس فرع الأمن القومي اللواء فؤاد إسماعيل والعميد عدنان بلول (كان مساعداً للواء كنعان)، والعميد منير جلعود، ورئيس فرع الأمن العسكري العميد يوسف عبدو، والعميد الياس موسى، والعقيد أمير كنعان.
    على رغم ذلك، يرفض أهالي المدينة بشكل مطلق التحدث مع وسائل الإعلام عن مشاهداتهم طوال الوجود السوري في مدينتهم. لكن لا يفوت بعضهم الحديث عما «خسروه» برحيل السوريين. يقولون بسخرية مرّة: «ما وفّره لنا جهاز الأمن والاستطلاع من أمان وهدوء وخدمات لم توفره الدولة اللبنانية منذ استقلالها، فبعد الانسحاب السوري من عنجر عاد تقنين التيار الكهربائي إلى المدينة التي كانت تنعم على مدار الساعة بالكهرباء، وافتقدت المدينة وجوه الكثير من السياسيين الذين كانوا يؤمّونها».
    والطريف في الأمر أن عدداً كبيراً من القاطنين في المدينة أو أصحاب المقاهي والمطاعم المنتشرة على طول الطريق من شتورا إلى عنجر كانوا يعرفون مواعيد زيارة هذا المسؤول أو ذاك. فالخميس كان لاستقبالات نواب الصف الأول قبل توجّههم إلى دمشق، والجمعة أو السبت لاستقبال القضاة، والأحد والاثنين لكبار الضباط الأمنيين، والثلاثاء للشخصيات الحزبية والسياسية غير الرسمية، والأربعاء لبقية القيادات المحلية أو الفلسطينية أو بعض الصحافيين.
    أما زيارات الرؤساء الثلاثة (منذ عام 1990) فكانت تتم في أي لحظة، وكانت الاجتماعات تُعقد إما في المنزل الخاص برئيس الجهاز (في شتورا، كنعان وغزالي) وإما في مكان آخر (صديق مشترك)، ولكنها كانت في أغلب الأحيان تعقد في عنجر.

    أحزاب تولد من جديد

    اليوم الوضع اختلف، ولا سيما على صعيد الممارسة السياسية، حيث نشطت أحزاب بعد تراجع أخرى.. وعادت أحزاب إلى الظهور العلني بعد غياب طويل أملته الظروف.
    يقول رئيس إقليم زحلة الكتائبي وأمين سر قوى «14 آذار» في المدينة المحامي إيلي ماروني، الذي اعتُقل في معمل البصل في عنجر خلال الحقبة السورية نتيجة انتمائه السياسي، إن: «الحرية عادت إلى العمل السياسي الحزبي بعد انسحاب الاحتلال السوري الذي عانينا منه ما لا يوصف، من قهر وقبض على الحريات ومداهمات واعتقالات».
    يجد ماروني وحزبه اليوم مساحة من الحرية «بعد الانسحاب تعددت الأنشطة الحزبية وأُعيد افتتاح بيوت الكتائب في كل البقاع وعاد من كان خائفاً أو مهجّراً قسراً إلى زحلة والبقاع، ومن كان يعمل في المقاومة السرية عاد الى ممارسة نشاطه بشكل علني». وينتقد ماروني بشدة «من كان أيام الاحتلال السوري مقاوماً واليوم يعمل من أجل مصالحه الشخصية بدعم من حلفاء سوريا وأزلامها».
    ويقول منسق «التيار الوطني الحر» في زحلة المهندس أنطوان أبي يونس إن «مقاتلة السوري بعد انسحابه من لبنان أصبحت بلا معنى، فالاحتلال خرج من منطقتنا وها نحن عدنا إلى ممارسة نشاطنا السياسي بكل حرية، على رغم بعض المضايقات التي نتعرض لها من قوى طائفية وقوى كانت معنا في الخندق الواحد خلال مقاومتنا الاحتلال السوري».
    ويؤكد أبي يونس الذي اعتُقل أكثر من مرة خلال الوجود السوري في البقاع، أن العلاقات مع سوريا اليوم «يجب أن تكون طبيعية، فمن مصلحة البلاد أن تكون العلاقة جيدة مع سوريا كدولة مثل غيرها، فجيشها واستخباراتها انسحبوا من لبنان، ولم تعد لنا مشكلة مع سوريا سوى المعتقلين اللبنانيين في سجونها». وفي حال عودة الجيش السوري إلى لبنان، يؤكد أبي يونس «إننا سنكون أشرس مقاومة له»، داعياً إلى العمل السياسي في البقاع ضمن الأطر والقوانين التي كفلها الدستور لأن «من كان يمنعنا ويعتقلنا خرج من لبنان».
    يلتقي مسؤول الحزب الشيوعي اللبناني في البقاع ملحم صليبا مع أبي يونس في أن «حرية العمل السياسي في البقاع أصبحت أكثر هدوءاً بعد الانسحاب السوري بعدما كانت هنالك بعض العراقيل التي تواجهنا كحزب كان يرفض الإملاءات السورية التي كانت تسيء أولاً وأخيراً إلى سوريا»، ويضيف أن الوجود السوري في البقاع «قمع كل القوى التي كانت مؤمنة بعلاقة سليمة ومميزة وحقيقية مع سوريا، ونحن كنا نعمل دوماً لتصحيح العلاقة وتصويبها، وكان يؤخذ علينا عندما ننتقد أننا ضد سوريا، ولكن كان انتقادنا هو من أجل خدمة لبنان وسوريا، ومن هنا دعمت الاستخبارات السورية قوى في البقاع لمواجهتنا».
    وعن حرية عملهم السياسي اليوم يقول صليبا: «نشاطنا السياسي الذي كان يرفض الوصاية السورية من منطق المصلحة الوطنية والقومية يواجه حالياً صعوبات نتيجة ارتفاع مستوى الخطاب الطائفي والعصبوية المذهبية التي تعتبر أخطر من الوصاية السورية السابقة».

    ارتفاع أسعار الأراضي



    نيبال الحايك ــ سيرين قوبا

    سجلت أسعار الأراضي والعقارات المبنية في بعض مناطق البقاع ارتفاعاً قياسياً بعد الانسحاب السوري مباشرة، حيث أُخليت مساحات واسعة من الأراضي في مختلف مناطق البقاع التي كانت تُستخدم مواقع عسكرية يُمنع دخولها أو استغلالها.
    ففي منطقة قب الياس ارتفعت أسعار الأراضي خلال السنتين الماضيتين بنسبة كبيرة تجاوزت 95%، وكذلك الأمر في مناطق جديتا وشتورا وتعنايل وكسارة. ويقول حسن حايك إن الأراضي التي كانت مستخدمة من قبل الجيش السوري في سهل قب الياس وأطرافها ومكسة وتعلبايا وسعدنايل، ارتفعت أسعارها بنسبة تراوحت ما بين 40 و60%.
    ويقول جريس عقل الذي «حُرم» استغلال أرضه قرب نبع شتورا مدى 30 سنة، إن أسعار مـــــــــتر «الأرض» في المنطقة ارتفعت بشكل كبير. ويشير خليل حنوش الى أننا «كنا خلال الوجود السوري نعرض المتر الواحد للــــــــــبيع بأقل من نصف دولار، ولكن اليوم وبعد مرور سنتين على الانسحاب السوري أصبح سعر المتر الواحد 60 دولاراً». هذه القفزة النوعية في «بورصة» العقارات ساهمت في تنشيط سوق كانت راكدة لزمن طويل.


    «... بدنا سكر»



    يُروى عن الأمين العام لحزب يساري لبناني كان على علاقة غير ودية بـ«رئيس عنجر» أنه استُدعي في أحد الأيام إلى مقر جهاز الأمن والاستطلاع، وعندما استقبله اللواء غازي كنعان سأله ماذا تحب أن تشرب، فأجاب بأنه يريد فنجان قهوة، فنادى كنعان الحاجب وطلب منه إحضار «فنجان» شاي للأستاذ.
    وفي رواية أخرى أن كنعان جمع حشداً من قيادات بعلبك ــ الهرمل قبيل انتخابات 1996 وقدم لهم الشاي من دون سكر، فطلبوا السكر، فقال لهم و«نحن بدنا سكر»، قاصداً بذلك دعم المرشح نادر سكر.
    وكان مقر جهاز الأمن والاستطلاع يشهد في مواسم الانتخابات «طوابير» من المرشحين ينتظرون لقاء رئيس الجهاز أو أحد مساعديه. وكان بعض السماسرة اللبنانيين المقرّبين جداً من رئيس الجهاز يتقاضون مبلغ 5 آلاف دولار بدل تحديد موعد لطالب اللقاء، بغض النظر عن نتائج اللقاء سلباً أو إيجاباً.


    إقفال 70% من محال المصنع



    أسامة القادري

    يبلغ عدد المؤسسات التجارية في سوق المصنع عند الحدود اللبنانية ــ السورية 768. وقد شهدت السوق انقلاباً غير مسبوق في حركة التبادل التجاري بين البلدين منذ الانسحاب السوري، أدى إلى إقفال نحو 70% من المؤسسات التجارية أبوابها جراء تراجع حركة المبيع نحو 70%. وأدى تراجع دور هذه السوق التي كانت تعتبر من أكبر أسواق لبنان المنظِّمة للتهريب «الشرعي» و«المقونن»، إلى خسائر مالية كبيرة أصابت أصحاب المؤسسات التجارية، إضافة الى فقدان نحو 6 آلاف فرصة عمل. فيما تراجعت إيجارات المحال التجارية على طول خط المصنع إلى ما دون ألف دولار سنوياً بعدما كانت تراوح ما بين 3 آلاف و8 آلاف دولار في السنة.
    يقول محمد عقل صاحب محل ألبسة: «خسارتنا كبيرة بسبب سوء العلاقة بسوريا لأننا لم نعد نرى الزبون السوري إلّا نادراً، ولذلك تكبر الخسارة بسبب تكديس البضائع التي تتحول من موسم الى موسم». ويأسف عبد الكريم صالح تاجر إلكترونيات بالجملة لما آلت إليه العلاقة ولا سيما أن «سوق المصنع تعتاش من التجارة مع سوريا... منذ الانسحاب السوري ونحن في خسائر متلاحقة». ولكن للتاجر وسيم قصب وجهة نظر أخرى إذ إنه يرى أن تراجع حركة سوق المصنع التجارية بدأ منذ «ما قبل الانسحاب السوري عندما انطلق النظام السوري في سياسة الانفتاح الاقتصادي وتسهيل المعاملات وخفض الضرائب الجمركية». وأضاف «كانت السياحة السورية الأسبوعية (نهار الجمعة) هي التي تشكل حركة اقتصادية لا تعوّض في الوضع الحالي (...) والزبون المحلي غير قادر على تعبئة الفراغ الذي يتركه الزبون السوري في الأسواق».
    ويؤكد وليد الخطيب، صاحب مؤسسة استيراد وتصدير، أن سوق المصنع لم تعد تشكل نقطة تصريف بضائع «والخسائر المتلاحقة لا تعد ولا تحصى، ولهذا السبب نعمل على فتح فرع في بيروت علّه يعوّض الخسارة التي نتكبدها هنا». ويوضح التاجر فاضل عبد الله ان حركة سوق المصنع تراجعت بنسبة 90%، و«نحن اليوم عاطلون من العمل وما نبيعه في الشهر لا يكفي مصاريف المحل والعائلة».