نقولا ناصيف
مع انقضاء سنة ثانية اليوم على خروج سوريا من لبنان (26 نيسان 2005)، تبدو دمشق حاضرة في بيروت أكثر من أي وقت مضى. ومع أن نفوذها العسكري خرج تماماً بمغادرة جيشها الأراضي اللبنانية، ونفوذها الأمني انكفأ إلى حدّ أدنى بسبب خروج المؤسسات الدستورية والأمنية من سيطرتها وانتقال معظمها إلى سيطرة قوى 14 آذار من خلال حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، فإن النفوذ السياسي لدمشق في لبنان ــــــ وإن تراجع ــــــ لا يزال مصدر أكثر من علامة استفهام عن فاعلية تأثيره في الوضع الداخلي. وعلى غرار ما اعتاد أن يطلبه الأميركيون والفرنسيون من الرئيس حافظ الأسد إبان تفويضهم إليه إدارة هذا البلد لأكثر من عقدين، كلما تعرّض استقراره لزعزعة، يكرّر الأمر نفسه مسؤولون دوليون نيابة عن الأميركيين والفرنسيين والمجتمع الدولي. كانت هذه الخلاصة المعبّرة عن زيارة المنسق الأعلى للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا لدمشق في 14 آذار الفائت، وزيارة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لها الثلاثاء الفائت. وهي إشارة مزدوجة يرسلها المجتمع الدولي إلى الرئيس بشار الأسد، بعدما جرّدوه من التفويض الذي أعطي إلى والده الراحل، ويعدّونه معنياً مباشراً بالاستقرار اللبناني. ولعلّ المفارقة في أن الانتقادات التي يوجهها المسؤولون الدوليون إلى سوريا بتحميلها مسؤولية تردي الوضع في لبنان، لا تلبث أن تتراجع حرارتها بعد زيارتهم لها، بأن يعلنوا اكتفاءهم بما يتعهّد لهم به الرئيس السوري من أنه سيبذل جهداً لمساعدة اللبنانيين على التفاهم الداخلي.
وفي واقع الحال يبدو هذا المخرج هو العقبة والحل في آن واحد، ويجعل التدخّل الدولي محدود الفاعلية. بل الأصح أن المواجهة التي تخوضها دمشق ليست مع السلطة الحاكمة في لبنان،بل مع المجتمع الدولي الذي بدأ، عشية انسحاب الجيش السوري من لبنان، ضغوطاً متشددة لعزلها أوشكت أن توجّه إلى سوريا أصابع اتهام مباشر وصريح باغتيال الرئيس رفيق الحريري، فأضحى بعد سنتين في حاجة إلى حوار معها بسبب المشكلة نفسها، التي هي استقرار لبنان.
ولعلّ الأمر الأكثر مدعاة للانتباه أنه لم يسبق لسوريا، منذ وصول حزب البعث إلى حكمها عام 1963، أن واجهت أزمة في علاقاتها مع لبنان كالتي تشهدها اليوم، والتي تمثل نزاعاً غير مباشر بينها وبين الأميركيين والفرنسيين على الأرض اللبنانية. لم تكن هذه دروساً تستخلصها من أحداث مماثلة قبل أعوام طويلة. عندما اتهم الرئيس كميل شمعون الرئيس جمال عبدالناصر بمدّ معارضيه من طريق سوريا بالسلاح والأعتدة والمسلحين لزرع الفوضى في لبنان، لم يتردد الرئيس اللبناني في الاحتكام إلى الجامعة العربية والأمم المتحدة في أيار 1958. وفيما فضّلت الجامعة العربية أن يُسوّي البَلَدان نزاعهما ثنائياً، فبدت أكثر انحيازاً إلى وجهة نظر عبد الناصر، أرسلت الأمم المتحدة فريقاً من المراقبين للتحقق من تهريب أسلحة ومسلحين إلى «الثوار»، معارضي شمعون، عبر دير العشائر والممرات الجردية الوعرة بين البلدين على امتداد حزام البقاع (على نحو ما يجري الكلام عليه الآن). بعد أيام انتهى بضع عشرات من المراقبين الدوليين برفع تقرير إلى الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد بيّن أنهم لم يتأكدوا من تهريب سلاح، كان في واقع الحال يُهرّبه رئيس الاستخبارات السورية العقيد عبدالحميد السراج. وعلى مرّ السنوات التالية أطلق لبنان، منذ النصف الثاني من الستينات ومطلع السبعينات، عشرات الصيحات عن تهريب أسلحة ومسلحين من الحدود اللبنانية ــــــ السورية، فلم يلقَ آذاناً صاغية.
كانت دمشق قد اعتادت هذا النوع من الرياضة في المواجهة المحدودة مع الخارج، على أمر اعتبره هذا الخارج أنه في صلب علاقات لبنانية ــــــ سورية. ولم يعدّه مرة كما يثار اليوم من أنه تهديد مباشر لاستقرار لبنان والمنطقة على السواء، عندما تدفق ألوف المسلحين الفلسطينيين ورجال الاستخبارات السورية بعد عام 1968. كانت أحداث 1958 أول تجربة مخيّبة لدور اضطلع به مراقبون دوليون على حدود البلدين. ولعلّ المفارقة أيضاً أن الأميركيين تبنّوا وجهة نظر شمعون من تهريب السلاح عبر اجتماعات ومراسلات أجراها وزير الخارجية شارل مالك مع الإدارة الأميركية ومع سفيرها في بيروت روبرت ماكلنتوك. إلا أن مجلس الأمن لم يجارها تماماً. الأمر نفسه يعيد المجتمع الدولي بعثه، وتقابله دمشق بجواب مبسط، هو أن نشر جنود دوليين على حدودها يدفعها إلى إغلاقها مع لبنان. والرسالة الجوابية إلى المجتمع الدولي، أكثر منها إلى الحكومة اللبنانية، بدورها ذات مغزى. وهو أن دمشق تقارب علاقاتها بلبنان من باب كون طلب وساطتها لإعادة الاستقرار إلى هذا البلد ينبغي أن يقترن بالحؤول دون تعريض استقرارها هي ــــــ أي سوريا ــــــ للزعزعة من خلال المحكمة الدولية في اغتيال الحريري، أو من خلال توسيع نطاق تنفيذ القرار 1701. ويتناقض هذا الموقف مع ما تقول به الغالبية النيابية.
الأمر نفسه في المطلب الذي يلح عليه المجتمع الدولي وحكومة السنيورة، وهو إقامة علاقات دبلوماسية سورية ــــــ لبنانية متوازنة ومتكافئة، تبدو دمشق قد حسمت جوابها عنه سلفاً، وهو أنها لن تكون في صدد إقامة مثل هذه العلاقات بمعزل عن صفقة شاملة تتصل بملف العلاقات اللبنانية ــــــ السورية برمتها، لكن مع سلطة لبنانية لا ترجّح قوى 14 آذار كفتها على نحو التوازن السياسي القائم حالياً. بذلك، فإن انقضاء سنتين على مغادرة الجيش السوري الأراضي اللبنانية، لم يحمل دمشق على تقديم التنازلين السياسيين الأكبر كلفة والأكثر فاعلية بالنسبة إلى قوى 14 آذار، لارتباطهما المباشر بالتدخّل السياسي في الشؤون اللبنانية. وهما المحكمة الدولية وإقامة علاقات دبلوماسية من شأنها التنظيم المجدي لواقع الحدود بين البلدين.
لم يكن مؤتمر الحوار الوطني السنة الماضية أول من نادى بعلاقات دبلوماسية بين البلدين، ولا من قبله لقاء قرنة شهوان والزعماء المسيحيون المعارضون، ولا بكركي. بل قد تكون المفارقة، أيضاً وأيضاً، أن أول من طالب بمثل هذه العلاقات من الجانب اللبناني، هو الرئيس رشيد كرامي في عهد الرئيس فؤاد شهاب. وجد حينذاك في هذا الخيار دافعاً لاستقرار لبنان. فكان أن برّر كرامي وجهة نظره بأن إرساء علاقات دبلوماسية لبنانية ــــــ سورية لا يقتصر على تصحيح واقع علاقات البلدين فحسب، بل يضع حداً للتجاذب السياسي، والأمني خصوصاً، في الصراع القائم على الأرض اللبنانية بين عبد الناصر ونظام حزب البعث في دمشق. كان المصريون والسوريون يتقاذفون، منذ مرحلة الانفصال عام 1961 ثم تصاعدت الوتيرة بعد عام 1963، الخلافات عبر صراع جهازَي استخباراتهما، وكل منهما كان يستميل فريقاً سياسياً من اللبنانيين في عهد، كان شهاب قد رغب في تحييده عن صراع المحاور العربية. لم يلقَ اقتراح كرامي آذاناً صاغية من دمشق التي كانت تسعى إلى تقليص نفوذ الناصرية، سياسياً وأمنياً في لبنان، أكثر منها تقييد علاقاتها بالبلد الجار في نطاق دبلوماسي مدروس. وفي واقع الحال كان دور مصر في لبنان آنذاك، وسفيرها عبد الحميد غالب، يتخطى التمثيل الدبلوماسي إلى التدخّل السافر والفج.