فداء عيتاني
مزيد من المعاناة ومن المعتقلين وبداية «انحسار» لمدّ «المستقبل»

قبل إثارة اعتقال مجموعة طرابلس الأولى إعلامياً، زار الأهالي مختلف فروع قيادة الجيش في الشمال ومراكز التوقيف لدى قوى الأمن الداخلي وفرع المعلومات بحثاً عن أبنائهم الذين اختفوا على دفعات. وقبل الإعلان الرسمي عن اتهام المجموعات المعتقلة بالانتماء إلى تنظيم «القاعدة»، زار الأهالي أيضاً عدداً من القيادات السياسية والنواب، لكنهم سمعوا كلاماً لم يكن ليرضيهم. «إذا ثبتت إدانتهم فلا مفر من القصاص، والبريء سيخرج تلقائياً». هذا ما قاله أحد نواب «المستقبل» لعائلة أحد الموقوفين، الوالد الذي يروي هذه الواقعة يضيف أنه اتصل هاتفياً بالمرجعية الدينية السنية في منطقة عكار، وفي كل مرة كان المرجع يطلب منه الاتصال به في وقت آخر، وفي المرة الرابعة كان خط المرجع مقفلاً، فانتهت الطريق إلى المراجع الدينية بحائط مسدود، أين منه جدار الأعظمية البغدادي.
تعاطف عدد من أئمة المساجد مع قضية المعتقلين، فاتصل بعضهم بالمرجعيات السياسية للشمال والسُّنَّة، إلا أن حركتهم شبه مشلولة بفعل سيطرة تيار «المستقبل» على الشمال سياسياً واجتماعياً. الموضوع أكثر من محبط بالنسبة إلى أئمة المساجد والفاعليات السلفية والإسلامية في طرابلس، ثمة شوكة مثلثة تمزقهم: «المستقبل» يحتكر الشمال سياسياً ومذهبياً، أجهزة الأمن اللبنانية (وقبلها السورية) تراقب حركاتهم وسكناتهم، و«القاعدة» بالمرصاد. «القاعدة» لم تعد مزحة سمجة في طرابلس، بل هي شأن آخر غير ما يعتقده ويراه السياسيون في العاصمة التي انتقلوا إليها ليعيشوا في تدابير أمنية معززة.

التاريخ والجغرافيا السياسية

تستيقظ طرابلس متكاسلة ككل يوم. مدينة من ذهب مغطاة بالغبار والإهمال، تاريخ من الحروب والمقاومة لا يتوقف. قبل ألف عام حين قاومت غزوات الصليبيين وكانت مدينة علم ورخاء، ثم سقطت وانتفضت وسقطت. السلفيون هنا يستلهمون تاريخ مدينتهم كما يرغبون، وينسون أنه خلال الحروب الصليبية كان العرب يدعونها حروب الفرنجة، وكان العرب يتحالفون مع الفرنجة ضد العرب أحياناً. ويكتفي السلفيون باستكمال خط تعبئة مذهبي شقه تيار «المستقبل» (سواء عن وعي أم مجاراة لمصالح وبنية المدينة)، حيث «الشيعة والملل الإسلامية الاخرى تعاونت مع الغزاة الفرنجة» (الصليبيين لترسيخ المفاهيم الطائفية، علماً بأن الصليبيين هو ما يطلقه الفرنجة على أنفسهم وليس ما أطلقه العرب عليهم من تسمية).
يستيقظ الشارع الطرابلسي غير عابئ بالمعتقلين وأهاليهم. ثمة مشهد آخر في الشارع. يبتسم الشيخ هاشم منقارة حين يتحدث عن الجو السياسي العام في عاصمة الشمال وأطرافه. حركة «جبهة العمل الإسلامي» أصبحت أسهل، والجو العام لم يعد معادياً بالمطلق. بلال شعبان الديناميكي صار أكثر راحة، وهو يعلم أن من تخلوا عن تيار «المستقبل» لم ينضموا تلقائياً إلى حركته، «التوحيد الإسلامي»، ولا إلى «جبهة العمل الإسلامي»، بل وصلوا إلى حد القرف واعتزلوا في منازلهم. الشيخ الشاب يعلم جيداً أن لجوء أهالي المعتقلين إليه أتى نتيجة يأسهم من مرجعيتهم الدينية والسياسية، وهو يعلم أن الأمور لم تستقم نهائياً لمصلحة وجهته في السياسة، إلا أنه اليوم أشد بأساً من ذي قبل، تماماً كما بات وجود «القاعدة» أشد بأساً وعمقاً من ذي قبل.
يتراجع الاهتمام بتيار «المستقبل». صار من الماضي وجود سعد الحريري في الحياة البائسة لسكان القبة أو أبو سمرا، أو في محال الإنترنت ذات الشاشات المستخدمة إلى حد الازرقاق في زواريب طرابلس القديمة، أو في محال اللحم والمعجنات الرخيصة في السوق المغلق في باب التبانة. صور رفيق الحريري تكاد تصبح من الماضي، واللافتات اليتيمة المعلقة هنا وهناك تشهد على حملة 23 كانون الثاني الدموية الماضية، حيث لا يزال الأهل يتذكرون أنها ليست المرة الأولى التي يرمى فيها بأبنائهم في أتون الاضطرابات الداخلية (كما حصل في الخامس من شباط) ويتم التخلي عنهم في السجون، ولا يكاد الأهالي يميزون بين النظام الحالي والنظام الأمني اللبناني السوري المشترك. الاعتقالات ووطأة التحقيقات العنفية، والاختفاء من العمل والظهور بعد شهر في محكمة عسكرية، أو الفرار إلى الجرود أمر يتكرر في أحياء الفقراء حيث الأنين يصل من منزل إلى آخر من دون أن تتمكن الجدران القديمة من عزله.
لم يتخل كل الشمال عن تأييد «المستقبل»، إلا أن التيار «تخلى عن كل الشمال» كما يقول أحد أهالي المعتقلين. صار يمكن الشيخ محمد خضر أن يعلن من منزله في القبة أن «الهدف من توزيع المال والسلاح عشوائياً هو إثارة الفوضى» ويضيف: «لا شك في أن أحد الأطراف المحلية لديه مصلحة في دعم هذه المجموعات (الجهادية السلفية). والسؤال هو من ساعد منظمة «فتح الاسلام»؟ ومن له مصلحة في إطلاق الوعود لـ«مجموعة التعمير» و«عصبة الانصار»؟ ومن الذي تحدث عن وضع احتياط عسكري للسنة في لبنان من الفلسطينيين؟ ومن عاد وانقلب على هذا الفريق وحرض عليهم داخلياً وخارجياً وفتح باب الاعتقالات؟».
يقول محمد خضر إن أكثر ما يطمح إليه هو الحوار الإسلامي ــــــ الإسلامي، إلا أنه لا يتمكن من كبح نفسه حين يقول: «يوضع الإسلاميون تحت مقصلة الاتهام حتى قبل رفع البصمات. لا نحاول تغطية المرتكبين، لكن ليثبتوا لنا الذنب أولاً».
انسحاب ظل «المستقبل» عن الشمال يبدو أيضاً واضحاً على محيا الشيخ السلفي داعي الإسلام الشهال. لا يصرح الرجل الحريص والمتعب بموقف واضح، لكن يمكن تلمس تبرم جلي من الأحوال، هي نفسها الأحوال التي دفعت بدعاة مثل بسام حمود ونبيل رحيم وعدنان محمد إلى التحول إلى الفعل المباشر، إلى «الجهاد» بعدما كانوا يعملون في «الدعوة والنصرة».

ما داموا يعترفون فلماذا التعذيب؟

«حين يعتقل أحد السلفيين يقر أمام قاضي التحقيق بكل شيء، هؤلاء الشبان يتحدثون بما لهم وما عليهم»، يقول أحد المحامين المسيحيين الموكلين عن المعتقلين، وهو يستغرب إخضاع المعتقلين للتعذيب. إلا أنه يختم بالقول: «على كل نحن لسنا غرباء عن أورشليم ونعرف أن هذا (التعذيب) من مسار الأمور».
يوضع المعتقل بلال أحمد بدوي السيد في زنزانة منفردة لفترة طويلة، لم يتعرض لأعمال التعذيب، لكنه أجبر على الوقوف لفترات طويلة. الشاب الذي كان يدرب رفاقه على قدرات القتال الجسدية (كيك بوكسينغ) كان يعمل طوال النهار محاسباً في مطاحن معروفة في الشمال، ويعود إلى منزله عند العاشرة ليلاً، وبحكم سكنه في منزل مستأجر قرب مسجد حمزة، حيث كانت تجري التدريبات في القاعة السفلى، كان يتردد على المسجد، ويلتقي بالشبان من المنطقة، لكنه سيفاجأ في سجنه بأن الشبان متهمون بالانتماء إلى «القاعدة»، وسيُفاجأ بمعرفته بأنه متهم أيضاً مثلهم.
لم يدر في خلد بلال السيد حين تم الاتصال به وطلب «الحقيبة ــــــ الأمانة» التي لديه بأنه سيتعرض لكل هذه «الأهوال». كل ما في الأمر أنه التزم تعليمات دينه حول الوفاء والأمانة عندما ترك أبو بكر (عدنان محمد) لديه أمانة هي عبارة عن حقيبة. وحين استدعاه المخبر إلى الشارع نزل برفقة والده، وأحضر معه الحقيبة، فتحها المخبر في الشارع، وكان فيها خمسة أجهزة نوكيا خلوية مستعملة. سلّم الحقيبة وعاد مع والده إلى منزله، وفي اليوم التالي استدعي إلى مكتب مخابرات الجيش. بعد أيام تُبلّغ العائلة بأن بلال بات في وزارة الدفاع في اليرزة، ومنها إلى قسم الإرهاب في سجن رومية.
بعد 24 يوماً يلتقي أهالي المعتقلين بأبنائهم. بلال السيد متهم بتأليف عصابة مسلحة، ورغم أن «مخابرات الجيش دهمت المنزل ولم تعثر على شيء»، بحسب والد الشاب ووالدته، إلا «أنهم اتهموه بالتآمر». يستدين الوالد الستيني المال (2500 دولار أميركي)، ويتراكم الدين فوق الديون التي اقترضها بلال من مكان عمله (5 ملايين ليرة لبنانية) ليصلح سيارته ويصرف على أهله بعدما أقعد المرض والده عن العمل. راتب بلال لا يتجاوز 500 ألف ليرة لبنانية، يعيش منه هو ووالده ووالدته ويدفع منه غيجار منزله (175 دولاراً). من حيث أتى بلال كانت الحياة صعبة بما يكفي، والآن سيخرج قريباً بإخلاء سبيل، فيما هو لا يعلم تحديداً ما الذي كان يجري.

ماذا جرى؟

كان عدنان محمد أول المعتقلين. في الماضي القريب التقى عدنان شخصاً سعودياً، ضمن إطار تنسيق العمل في العراق. يبلغه السعودي أن المطلوب من اليوم فصاعداً تدريب المجاهدين قبل إرسالهم إلى العراق، وأن كلفة التدريب والاختفاء في العراق بالغة بشرياً، وعلى المجموعات أن تكون جاهزة قبل الانضمام إلى «النصرة والجهاد»، وهو ما يدفع عدنان إلى البدء في تشكيل مجموعته الطرابلسية التي لا يعرف أفرادها بعضهم. يلتقي عدنان في وقت سابق قيادة المجموعة الأخرى المعتقلة في طرابلس، أي مجموعة بسام حمود، داخل مخيم البارد وبرعاية «فتح الإسلام». يحاول الاثنان الانضمام إلى «فتح الإسلام» مع مجموعتيهما، إلا أنهم يفشلون في التوافق، ويكمل كل منهم دربه منفرداً.
يروي أحد الذين التقوا عدنان أنه اعترف في التحقيقات «التي تخللها الكثير من التعذيب» بالعمل على تجنيد الشبان للالتحاق بـ«الجهاد في العراق» ضمن مجموعات «القاعدة» أو ما بات يعرف بـ«هيئة شورى المجاهدين في العراق»، ويقر بأن الشبان لا يعرفون بعضهم، ولا يعرفون بما يجري، ولا يعرفون أن التدريبات هي مجرد تمهيد للالتحاق بـ«المقاومة» في العراق، وكان دائماً يخبرهم بأن التدريب للدفاع عن النفس في منطقة باتت تخشى «خطر العلويين» القاطنين في جبل محسن.
يتحمس أحد النواب للعودة إلى تبني قضية المعتقلين في كلا المجموعتين إعلامياً، وهو نفسه كان قد طرد والد أحد المعتقلين، قائلاً له: «لن أتفوه بكلمة قبل نهاية التحقيق». تمتد «القاعدة»، شمالاً وجنوباً، تجري تدريبات حثيثة، تلعب لعبة حرب المخابرات مع كل الأجهزة، اللبنانية والسورية والإيرانية وغيرها، وتتأهب، فالآتي آتٍ، ولم يعد في الوقت متسع، كما يبدو، للصراع على هوية طرابلس.



اجزاء ملف "«القاعدة» في لبنان... بداية الصراع على هوية طرابلس":
الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع