عمر نشابة
تعتمد الدولة أساليب قمع المعرفة بأدوات متطوّرة... لكن لحسن
الحظّ ليست متطوّرة بما فيه الكفاية، فالتكنولوجيا تجعل المعلومات الممنوعة في متناول الجميع. فما فائدة رقابة الأمن العام؟


«STATUS: REFUSAL» (الوضع: مرفوض) ... هكذا دوّن على مستند صادر عن الأمن العام اللبناني وصل الى يد مواطن كان قد طلب شراء فيلم اجتماعي اميركي عبر الإنترنت بعنوان «ANGELS IN AMERICA». فبحسب الامن العام ممنوع استيراد هذا الفيلم الى لبنان لأنه يتضمّن «أحاديث جنسية (ويذكرها المستندبالتفصيل) ومشهداً فيه طَرَف عَلَم اسرائيلي صغير الى جانب أعلام أخرى... وعلماً اسرائيلياً الى جانب العلم الاميركي، ونجمة داوود في معبد يهودي، وحاخامات خلال احتفال تأبيني وأغنية عبرية وصلاة عبرية». وهكذا تسلّم المواطن علبة الفيلم فارغة لأن الامن العام قرّر مصادرة الفيلم الذي كان فيها. ويُعدّ ذلك مصادرة لملك خاص لأن المواطن كان قد سدّد سعر الفيلم عبر بطاقة ائتمانية (CREDIT CARD). ومبدأ الملك الخاص يُعدّ اساسياً في نظام الجمهورية اللبنانية الاقتصادي، وبالتالي من المفترض أن يكون لدى الامن العام اسباب أخرى منطقية ومقنعة وغير عنصرية لمصادرة الفيلم.
هل من المنطقي مصادرة فيلم يمكن مشاهدته في محطّات التلفزيون التي تبثّ عبر الاقمار الاصطناعية؟ أو هلّ يخطّط الامن العام لطلب ملايين الدولارات من موازنة الدولة لشراء أجهزة تشويش على البثّ الفضائي؟
فيلم «ANGELS IN AMERICA» حائز خمس جوائز «غولدن غلوب» ومنها أفضل مسلسل قصير، وهو من بطولة مجموعة من أكثر الممثلين تقديراً في السينما العالمية وليس فقط الأميركية وهم ميريل ستريب (MERYL STREEP) وآل باتشينو (AL PACINO) وماري لويز باركر (MARY LOUISE PARKER). الامن العام اللبناني رأى ان «الفيلم بمجمله يشجع على تقبل الشاذين والمصابين بمرض نقص المناعة في المجتمع»، وكأن في ذلك إثماً أو جريمة أو دافعاً لمنع مشاهدته أو عرضه على المواطنين. ويدلّ ذلك على أن عناصر الرقابة في الامن العام يجهلون (أو يتجاهلون) أو يرفضون المبدأ العالمي الانساني الذي يدعو الى تشجيع تقبّل «المصابين بمرض نقص المناعة في المجتمع»... وماذا يعني ذلك التجاهل أو الرفض؟ هل يعني أن الامن العام يفضّل عدم تقبّل المجتمع مرضى السيدا؟ وماذا يعني «عدم التقبّل»؟ حرمانهم الخدمات الطبية والمساعدة الاجتماعية الإنسانية وعزلهم عن سائر الناس؟ وهل ما يقوله الامن العام هو أن السيدا مرض يعانيه المثليون (الذين يسمّيهم «الشاذين») دون غيرهم؟
عرضت «الأخبار» رسالة الامن العام على عدد من كبار الأطباء اللبنانيين فكان ردّ فعلهم أن ما ورد فيها معيب ومناقض للسياسة الصحّية التي من المفترض اتباعها في المجتمع وقوامها تقبّل المصابين بمرض نقص المناعة في المجتمع على عكس ما جاء في نصّ الامن العام. كما رأى المكتب الاقليمي لمفوضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة أن مضمون رسالة الامن العام يتنافى مع التزامات الدولة اللبنانية في مجال احترام الكرامة الانسانية. ورأى المكتب، على لسان ممثله الاقليمي فاتح عزّام، أن الرقابة هي في حدّ ذاتها تجاوز للحقوق الانسانية والحقّ بالمعرفة والتثقيف بشكل خاص.
الا أن مسألة رقابة الامن العام ومنع هذا الفيلم تتعلّق بقمع حرّية التعبير قدر ما تتعلّق بمناقشة مدى فعاليتها. اذ يمكن المواطن أن يطلب من صديق له يسكن في الخارج أن يرسل إليه عبر الانترنت فيلم «ANGELS IN AMERICA» بكامله دون أن تعترضه رقابة الامن العام. فما الفائدة من الرقابة اذاً. واذا كانت فائدتها معدومة فلماذا تصرف الدولة مئات ملايين الليرات سنوياً من مال الشعب على كمبيوترات ورواتب ومكاتب للرقابة على الأفلام والكتب والموسيقى؟ ألا يُعدّ ذلك هدراً لأموال الناس؟ اليس من الأجدى تحويل الكمبيوترات والأجهزة الالكترونية التي يستخدمها البوليس في الرقابة الى أقلام المحاكم ومكاتب القضاة في قصر العدل المحرومة تجهيزات كهذه؟