جان عزيز
هل دفع مغدورا جدرا ثمن السباق الذي بدأ فعلاً بين مساعٍ ما لإيجاد حلول فعلية أو ثغر في جدار المأزق على الأقل، وبين حسابات المتضررين من ذلك ومصالحهم في التفجير الكامل للوضع اللبناني؟
الأوساط «الحوارية» بامتياز، والمتابعة «لحدث سويسرا» قبل أسبوع، كانت تردف في حلقة ثانية من قراءتها للقاء مونترو، حين حصلت حادثة اختطاف المواطنين، ومن ثم اغتيالهما، فتقول إنه صحيح كما رجّحت في حلقة أولى، أن تكون الظروف اللبنانية الداخلية غير مؤهّلة ولا مؤاتية لتثمير خطوة حوارية جديدة، وصحيح أن توازن القوى القائم في بيروت بين السلطة ومعارضيها لا يفسح المجال أمام تحمّس طرف واحد على الأقل لمساعي تسوية ما، كما أن تصحير المجتمع المدني هذه المرة، على عكس تصحير المجتمع السياسي في العقدين الماضيين، قلّص من خامات المحاورين، كما من المساحات المشتركة بين الجماعات اللبنانية، لكن الصحيح أيضاً، بحسب الأوساط نفسها، أن ظروفاً مؤاتية لتلمّس احتمالات الحوار والحل اللبنانيين، باتت متوافرة في الخارج، على عكس الداخل.
وتستدلّ هذه الأوساط على صحة اعتقادها بالعودة إلى لقاء مونترو في سويسرا، بين 17 نيسان الجاري و20 منه. وتشرح ما تعتبره دلالات ومؤشرات مهمة، في الشكل قبل المضمون. فالجهة المنظّمة أولاً هي «مركز جنيف للمراقبة الديموقراطية للقوات المسلحة». وهو مركز شبه رسمي أو حكومي. ذلك أنه تأسس بقرار من الحكومة السويسرية الفدرالية في تشرين الأول 2000. ثانياً إنه مركز بحثي مستقرّ في هذه الدولة «الأممية» المحايدة، لكنه يعمل بالتعاون، أو حتى «نيابة» أو واجهة لجهات غربية فاعلة دولياً، ولعواصم القرار، وعلناً للمنظمات الدولية، وفي طليعتها الأمم المتحدة. وثالثاً، مجال عمل هذا المركز متخصّص في شؤون الأمن الحدودي للدول، والقوى المسلحة الرسمية وغير الرسمية فيها، ومراقبة عمل الأجهزة العسكرية والأمنية في الدول الساعية إلى الديموقراطية، وهي مسائل تجد في الواقع اللبناني صدى ومعاني خاصة حالياً. أما رابعاً، فإن إمكانات المركز الكبيرة نسبياً، مع وجود سفير متخصّص على رأسه هو السويسري تيودور وينكلر المعيّن من جانب حكومته، ومجلس عام للمؤسسة يضم ممثلي 48 دولة من الخبراء الأمنيين، إضافة إلى مجلس استشاري دولي فيه أسماء لامعة، وفريق عمل هيكلي من 60 شخصاً، كل هذه تدلّ على «وظيفة» المركز الحساسة دولياً. تبقى خامساً، سوابق أنشطته واهتماماته من أوروبا الشرقية إلى العلاقة بين صربيا وحلف الأطلسي، وصولاً إلى دعم عمليات الأمم المتحدة لحفظ الأمن في مختلف أنحاء العالم، لتزيد الدلالة على أهمية عمله.
في هذا السياق حضر لبنان على طاولة العمل هذه قبل أسبوع، تحت عنوان «دور البرلمان في تطوير سياسة أمنية وطنية في المنطقة العربية». وتتابع الأوساط نفسها، صحيح أن حالات أخرى عربية شاركت، لكن التركيز كان واضحاً على «الحالة اللبنانية». لا بل تحديداً على «وضع حزب الله»، الذي حضر عبر ثلاث أوراق عمل مقدّمة إلى اللقاء.
وتميل هذه الأوساط إلى القول إن «حزب الله» كان حاضراً في شكل غير مباشر عبر ورقة مقدّمة من أحد الخبراء البارزين القريبين منه. وذلك في مقابل حضور نيابي جامع لكل تلاوين السياسة اللبنانية، مع النواب الستّة: سمير الجسر، يغيا جرجيان، أنطون سعد، حسين الحاج حسن، أيوب حميّد وفريد الخازن.
وتتابع الأوساط أن خرقاً هامّاً أحدثته الورقة المذكورة في نقطتين أساسيتين وجوهريتين: الأولى التسليم بإمكان إيجاد إطار لحل مسألة سلاح «الحزب»، عبر مؤسسة الدولة، من ضمن فكرة استحداث «وزارة للمقاومة والدفاع الشعبي». والثانية التحذير المترافق مع «الفتحة» السابقة، من أن استمرار تجاهل السلطة القائمة في بيروت لموقف الاعتراض الشيعي، لا يمكن أن يمرّ من دون ذيول عميقة في وجدان هذه الجماعة. وهي ذيول قد تؤدي إلى مطالبة بتغيير النظام القائم، إن لم يكن مع المسؤولين الشيعة الحاليين، فمع الذين قد يأتون لاحقاً.
وإذ تتوقّف الأوساط نفسها عند أهمية هذا الكلام، بمعزل عن قبوله أو رفضه أو وجود ملاحظات على بعضه، تشير إلى دلالة لافتة أخرى سجّلت في اللقاء السويسري، هي صمت نواب السلطة الثلاثة حياله، وعدم التعليق عليه لا سلباً ولا إيجاباً. وهذا ما سمح بانتهاء «المحادثات» إلى أجواء شبه إيجابية، كرّسها التوافق على متابعة البحث، انطلاقاً ممّا بلغه، ولبلورة الأفكار التي طرحت في مونترو.
قد تكون مجرد مصادفة زمنية أن تتزامن عودة «الأوراق» السويسرية ونتائجها إلى الأطراف اللبنانية المعنيّة، مع جريمة الاختطاف والاغتيال. وهي مصادفة دفعت كثيرين إلى استذكار أدوار مشبوهة أدّتها أجهزة مخابرات عربية مطلع سنة 1975، وصولاً إلى حادثة 13 نيسان، التي لم يعرف، حتى اللحظة، مَن هي الجهة التي قادت سيارة «فيات» الشهيرة، وخلفها البوسطة الأكثر شهرة، في قلب عين الرمانة. مع همس الكثير من السياسيين والأمنيين والقضائيين، باتهامات مكتومة في هذا الموضوع، موجّهة إلى نظام عربي معروف بعمله الأمني المقاول. أو هي مصادفة استذكرت لدى المعنيين أيضاً التزامن بين «وثيقة جنيف» الفلسطينية وبين أحداث مماثلة داخل الأراضي الفلسطينية، سعّرت المواجهة بين القوى الفلسطينية المتنافسة.
هل هو السيناريو نفسه؟ هل تكفي اتصالات أول من أمس ومواقف الأمس لوأده؟ هل يتكرّر الآن في اتجاه معاكس، خطفاً مزعوماً وضحايا جديدة، متبادلي الأدوار؟ أسئلة برسم القلّة من عارفي 13 نيسان 1975، وأبرزها شهادة محسن دلول.