فداء عيتاني
أصوات التدريب في البحر تصل إلى المينا... هكذا ستُضرَب القوات الدولية!

تبدأ قوات منظمة التحرير الفلسطينية بالانتشار في محيط مخيم نهر البارد، وفي البداوي. تتنصل المنظمة من حادث أودى بحياة جندي لبناني في البارد، وتتقدم باتجاه مداخل المخيم الذي يعيش فيه ما يقارب 40 ألف إنسان، يثمّن معظمهم «حالة الأمان» التي فرضتها «فتح الإسلام»، إلا أنهم يشكون من إغلاق المخيم أمام التجارة التي كانت تعيل المخيم. يمشي مقاتلو «فتح» على وقع خطاب «الاحتياط العسكري للسنة في لبنان»، فيما تتراجع «حالة دعم المجموعات السلفية من قبل أركان السنّة»، وهو ما اتهمت به النائبة بهية الحريري شخصياً قبل أشهر قليلة. 150مقاتلاً هو عديد قوات منظمة التحرير في البداوي ومداخل البارد. ولكن من هو العدوّ هناك؟
يبعد مخيم البداوي عن قاعدة القليعات الجوية (رينيه معوض) مئات الأمتار، ويبعد مخيم البارد عن القليعات 9 كيلومترات، وعن الحدود السورية 15 كيلومتراً، هي الجغرافيا تشرح الأحداث. ولكن قبل الدخول في سيناريوهات المستقبل، ثمة معلومات لم تتوافر إلا أخيراً عما يحدث في الشمال.

أهلاً وسهلاً بالصهر

من العراق بدأت المشكلة. الشبان العرب باتوا عبئاً على «مجلس شورى المجاهدين» الذي يمثل «القاعدة» في العراق، ويضم آلاف المقاتلين العرب، برعاية عدد من العشائر السنّية في أرض الرافدين. إلا أن عدم الاستقرار الأمني والمشكلات التي تقع بين أفراد من العشائر و«القاعدة»، بسبب استياء بعض العشائر المختلطة (سنّة وشيعة) من عمليات القتل اليومية، دفع إلى ظهور حال من التململ.
وقع عدوان تموز على لبنان، الإسرائيليون حرّكوا معادلات أضخم من حجمهم ومن حجم لبنان نفسه. وكما يروي أحد المتابعين المتصلين بكوادر «القاعدة»، فإنه في نهايات الحرب، وبعد اتضاح صورة الخيارات التي ستأتي بقوات أجنبية، اتخذ «مجلس شورى المجاهدين» قراره بالانتقال إلى لبنان. لم يكن القرار بنقل بعض المجموعات فقط، وإنما تحويل لبنان من أرض لـ«النصرة» إلى أرض لـ«الجهاد».
يخرج الرجل الثاني في «القاعدة» أيمن الظواهري في 28 تموز 2006 (خلال العدوان) ليعلن أن تنظيمه «سينتقم من الغزاة الصهاينة والصليبيين»، وفي 12 أيلول يتهم كلاً من مصر والسعودية والأردن بدعم العدوان على لبنان، ويهاجم القرار 1701 ويدعو إلى إسقاطه. وفي 14 شباط الفائت، يدعو الظواهري في تسجيل جديد «إخوة الإسلام والجهاد في لبنان لئلّا يرضخوا للقرار 1701 وألّا يقبلوا بإزاحة حدود لبنان 30 كلم للخلف وبوجود القوات الدولية الصليبية في جنوبه... إن المخطط الأميركي في لبنان هو نفسه في العراق وأفغانستان وفلسطين ومصر والسعودية والأردن ودول الخليج والجزائر والصومال»، معتبراً أن «كل من تعاون (مع هذا المخطط) هو خائن». وبتحليل بسيط فإن ثمة «إخوة للإسلام والجهاد» في لبنان، كما إن فيه مخططاً شبيهاً بما خُطّط للعراق، وبالتالي فإن أساليب المواجهة هنا ستكون شبيهة بتلك «الناجعة» هناك.
حركة الانتقال بين لبنان والعراق والتي تمرّ (سواء بالتواطؤ أو غضّ النظر أو من دون علم) في سوريا لم تتوقف منذ بداية احتلال أرض الرافدين، الشبان يتحمسون للذهاب إلى الجهاد، يدفعهم إلى ذلك أن شمال لبنان هو «الخزان البشري والإسلامي، ومقرّ للقهر والحرمان ولتراكم المشكلات والمطاردات، كما لتراكم أخطاء تيار المستقبل» بحسب أحد المتابعين لحركة «القاعدة» في الشمال، الذي يوضح أن السلفيين في الشمال جزءان: مع النظام السعودي وضده، «لكن الكل يتلقى الدعم من جهات سعودية سواء رسمية أو معارضة، إذ إن بعض الأمراء والشخصيات يرون أنهم بدعم القاعدة يجاهدون بأموالهم»، ناهيك عن دعم من جهات وشخصيات خليجية.
بعد قرار «مجلس شورى المجاهدين في العراق» نقل «الجهاد» إلى لبنان، بدأت حركة هجرة معاكسة: عشرات من المقاتلين اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين والأردنيين والعرب جاؤوا إلى البلد، واستقرت غالبيتهم في مخيم نهر البارد، ووصل بعضهم إلى طرابلس أو البداوي، وآخرون إلى البقاع وإلى «نقاط المرور بالعبور» في قرى قريبة من الحدود.
«العائدون من العراق» صاهروا أبناء المخيم وسكنوا بينهم وحظوا باحترامهم، وهم عاشوا في الأشهر الماضية حياة طبيعية ظاهراً. أحد الذين استشهدوا في مشكلة البداوي كان قد حوصر في كنيسة المهد في فلسطين، وأدى استشهاده إلى حصد المزيد من العطف والاحترام لـ«فتح الإسلام».
أما في باطن حركة الهجرة فقد بدأ التدريب والاتصال بمجموعات لبنانية، كمجموعة بسام حمود وعدنان محمد وغيرهما، وسط تراجع ملموس لقدرات تيار «المستقبل».

من الطارق على الأبواب؟

اعتقد أبناء الشمال أن إسقاط النظام السوري قاب قوسين، عبر الملافح والأغنيات بمكبّر الصوت، والرقص في الاعتصامات. إلا أنهم، مع الوقت، اكتشفوا أن الرقص لم يؤد إلا إلى السير وراء جنازات، وأن ارتداء الفولار الأحمر والأبيض ينتهي بوضع الفولار نفسه فوق نعش أحد القادة السياسيين، واستنتجوا بديهية أن سوريا ممسوكة فوق قدرة مراهقي لبنان على جلب أمن فردي لأنفسهم، وأن اللعب مع الدول الإقليمية عاقبته قاسية، وأن درساً في السياسة كان لا بد أن يتعلمه مسؤولوهم قبلهم. الدول العظمى يمكنها الخسارة إقليمياً، لكن ليس في استطاعة الدول الإقليمية وقف تدخلها في الجوار أو الخسارة في محيطها.
كان لا بد من تراجع عن تكتيك طفولي. وسط هذه المخاوف وصل «مجاهدون» لا يهابون الموت، وبدأت التدريبات. وقع إشكال في البداوي انتهى بطرد «فتح الإسلام»، إلا أن الحركة استولت، خلال ساعات، على البارد، وبدأت بتخزين السلاح والعتاد داخله. في الليل يمكن سماع التدريبات، بينما ما يحصل عليه الإعلام ليس أكثر من صور قديمة وتوقعات وتحليلات حول ما يجري في المخيم المكتظ. وكثرة الكلام حول ما يجري «أقوى دليل على أن أحداً لا يعرف ما يحصل» بحسب متابع للاتصالات بين المخيم ومحيطه.
يطرق العنف على الأبواب. في المخيم تدريبات حثيثة. ليلاً يخرج المقاتلون إلى الساحل ويتدربون بحرياً. من الذي سيواجهه «المجاهدون» في بحر يبعد عن شواطئ إسرائيل مئتي كيلومتر، وفي عرضه زوارق عسكرية لقوات الطوارئ الدولية.
«أبو هريرة»، المسؤول في «القاعدة»، والذي نظم حركة القادمين من العراق، يتحرك داخل طرابلس، وينتقل منها إلى داخل البارد، حيث تدريبات المقاتلين العرب على قدم وساق، ويؤكد أحد المتابعين لـ«القاعدة» بأن من يظهر في الإعلام من مسؤولي «فتح الإسلام» هم «واجهة»، لكن القيادة الفعلية مختلفة «بعض الشيء».
أحد قادة «القاعدة» يصل من بغداد، ويحمل الجنسية الأردنية، يعمل أيضاً على تنظيم القواعد والكوادر. «فتح الإسلام» تحتضن هؤلاء الشبان، وتتضخم، بشكل لا يمكن قمعه. يرتفع عدد المقاتلين في مخيم نهر البارد. ثمة 900 مقاتل في المخيم، إلا أن هذا ليس كل شيء، ولا تعتبر «فتح الإسلام» معركتها في المخيم، ولا على أبوابه.
التدريبات ليست محصورة في الجانب البحري، ثمة خبرات انتقلت من التجارب العراقية والشيشانية والأفغانية. الخبرات تتوزع على شبان في الأحياء الفقيرة في طرابلس، حملة اعتقالات مخابرات الجيش التي طاولت مجموعتين (ثلاث مع تلك الموقوفة بتهمة السرقة لتمويل نفسها) مجرد «ضربة وقائية» من آت أعظم، إلا أن «حرب الأمن» الجارية لن تتوقف عند هذا الحد، والمعالجة الأمنية لمشكلة في عمقها سياسية واجتماعية واقتصادية ستبقى عاجزة ما لم تعالج جذور المشكلات التي تدفع بالشبان إلى خط الجهاد.
ينتشر أكثر من 450 مقاتلاً في أطراف وأحياء طرابلس الفقيرة، بعضهم عاد من العراق، وآخرون لم يغادروا البلاد بعد، والبعض يخضع للتجنيد ضمن خلايا تبدو بريئة حتى في نظرهم هم، يشكون جميعهم من واقع السنّة المتردي، والذي لا بد من تغييره، والوسيلة الوحيدة المتاحة للتغيير اليوم هي ما يقدمه «مجلس شورى المجاهدين»: «الجهاد ضد الصهاينة والصليبيين وإسقاط القرار 1701، وطرد القوات الأجنبية من لبنان». من ضمن هذه الخلايا مجموعات ترصدها المخابرات وتعتقلها، ومن ضمنها من لا تعرف به هذه المخابرات المحلية، هؤلاء الشبان ينتظرون الساعة الصفر. ربما تفتح أبواب جهنم على الشمال إذا قررت جهة ما تصفية وجود «فتح الإسلام» في البارد، حيث ستنطلق النيران من داخل مدينة طرابلس، وهذه المرة من يدخل لعبة الدم يعرفها جيداً وليس هاوياً فيها، فليس هو من أطلق النار مكشوف الصدر في الجامعة العربية في بيروت، بل هو من أرسل عشرات الشبان ليفجروا أنفسهم في العراق، وبعضهم ممن شارك وقاد عمليات المقاومة ضد الاجتياحات الأميركية في الفلوجة.
تضع حركة «فتح الإسلام»، بقيادتها الفعلية، نصب عينيها التطورات في لبنان، توقيت الحركة المقبلة سيكون حين يتم إغلاق الحدود اللبنانية ـــ السورية، أو استخدام قاعدة رينيه معوض الجوية. مجموعات «القاعدة» في مخيم البارد تضم لبنانيين وسعوديين وفلسطينيين وأردنيين، إضافة إلى عدد قليل من العراقيين، وتتخوف هذه المجموعات من أن يتم تفجير الوضع خلافاً لرغبتها والتوقيت الذي تراه مناسباً، عبر استخدام تيار «المستقبل» لقوات منظمة التحرير على مداخل المخيم، إذ إن القيادات «القاعدية» تعتبر أن مهمتها ليست داخلية أو في مواجهة قوات فلسطينية. وهي ترى، كما ينقل عنها من يتابع الاتصال بها، أن رسالة الظواهري «القريب من قلوب المجموعات الموجودة في لبنان وعقولها»، هي إشارة تأهّب لهم، وفي حال إغلاق الحدود مع سوريا من قبل قوات دولية أو محلية فإن «القاعدة» تملك الآن ما يمكنها من اجتياز كيلومترات قليلة إلى عرض البحر ونسف السفن الحربية الأجنبية فيه، كما انها تملك ما يمكنها من الوصول الى الحدود الدولية وخرق أي وجود أجنبي هناك، وفي حال استخدام قاعدة القليعات مقراً لقوات أجنبية، فإن الوصول إليه أمر يسير عبر استعادة البداوي ثم منه نحو المطار، وهو ما سيحصل أيضاً إذا ما أجريت انتخابات رئاسية مرتجلة في لبنان في هذه القاعدة.
ما يسميه المتابعون في الشمال «ضربات وقائية» لمجموعات «القاعدة» لن تؤدي إلا إلى المزيد من الاحتراف للمقاتلين الذين يتضور أهلهم جوعاً وفقراً وإهمالاً ويهضمون وعوداً تشبه في حال تحقق بعضها حياة النعيم في بلاد الطوائف السعيدة.


اجزاء ملف "«القاعدة» في لبنان... بداية الصراع على هوية طرابلس":
الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع