تقول واشنطن إنها لا تتدخّل في الرئاسة اللبنانية. ماضيها مغاير: انتخاب فؤاد شهاب كان استحقاق روبرت مورفي، وانتخاب الياس سركيس استحقاق دين براون، وانتخاب بشير الجميل استحقاق فيليب حبيب، وانتخاب مخايل ضاهر لو حصل كاد يكون استحقاق ريتشارد مورفي. أما السفراء فلم تقل أدوارهم أهمية: أرمين ماير حرّك معارضي شهاب لرفض التجديد له، وجون غونتر دين تبنى بشير وعقّل سلوكه، وجيفري فيلتمان رأس حربة الطعن في تمديد ولاية إميل لحود ودعم حكومة فؤاد السنيورة.
نقولا ناصيف




دخلت الولايات المتحدة لبنان من البوابة التي عبرت منها إلى الشرق الأوسط: العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. أخلت المنطقة من نفوذ فرنسا وبريطانيا اللتين خاضتاها مع إسرائيل. فكان أن فرضت عليها الخروج من قناة السويس. السنة التالية ابتكرت مخيلة الرئيس دوايت أيزنهاور ما حمل اسمه منذ 5 كانون الثاني 1957: «مبدأ أيزنهاور» الذي يشجع دول الشرق الأوسط على طلب مساعدة عسكرية من واشنطن إذا شعرت أن التمدّد الشيوعي يهدّد أنظمتها. بعد السعودية، انضم إليه لبنان في آذار، وكذلك الأردن. غضب جمال عبدالناصر وحاول تطويقه بوحدة مصرية ـــــ سورية.
كان «مبدأ أيزنهاور» فاتحة سياسية لخطوات عسكرية ستبصر النور في تموز 1958. سقط ملك العراق فبصل الثاني وخاله الوصي عبدالإله ورئيس الحكومة نوري السعيد في انقلاب، فجر 14 تموز 1958 نفّذه عبدالكريم قاسم الذي قتل الثلاثة وأسقط الملكية الهاشمية. حتى ذلك اليوم لم تكن واشنطن استجابت طلب كميل شمعون مساعدته على مواجهة تدخّل عبدالناصر في الشؤون اللبنانية، وسعيه إلى إسقاط حكمه، توطئة لجعل لبنان نجمة ثالثة في الجمهورية العربية المتحدة. عبثاً حاول الرئيس اللبناني لدى السفير الأميركي روبرت ماكلنتوك (1958 ـ 1961) لنصرته ضد خصومه في «ثورة 1958». بعد سقوط الملكية، نزل على شاطىء الأوزاعي، بعد ظهر 16 تموز، خمسة ألآف من مشاة البحرية الأميركية للحؤول دون انهيار لبنان في قبضة الناصرية.
كان أول دخول عسكري أميركي إلى لبنان مقدمة حل سياسي. بعد تعاطف أميركي مع التجديد لشمعون في الأشهر السابقة، غذته جهود وزير الخارجية شارل مالك، بات على واشنطن أن تعدّ لتسوية مختلفة. حضر روبرت مورفي إلى لبنان في 18 تموز وجال على المسؤولين والزعماء وانتهى إلى تأييد ترشيح قائد الجيش فؤاد شهاب لخلافة شمعون. في 31 تموز بات القائد رئيساً. قبل ساعات غادر مورفي بيروت في جولة عربية كيلا يقال إنه حاول التأثير في إجراء الإستحقاق. كان الرجل قد سلّم بفاعلية النفوذ الناصري في لبنان وقوة مؤيديه، ووجد شهاب ـ وقد أجمع المعارضون مسيحيين ومسلمين على تأييده، الأقدر على بناء توازن سياسي جديد في لبنان.
انطوت انتخابات 1958 على درسين: أولهما سابقة انتخاب قائد للجيش رئيساً شجعتها واشنطن بحرارة. وثانيهما تسليم الأميركيين للمرة الأولى بدور عربي مباشر في انتخاب الرئيس اللبناني وُضع في يد الزعيم المصري. بعد انتخابة طلب شهاب انسحاب المارينز، فغادر الجنود في تشرين الأول.
التجربة نفسها تكرّرت عام 1976. كان التأثير الأميركي المباشر في الوضع اللبناني انحسرتماماً. عُهِد الدور إلى أرمين ماير (1962 ــــ 1965)، خلف روبرت ماكلنتوك، فراقب عن كثب علاقة شهاب بعبدالناصر. كان الإستقرار ساد الوضع اللبناني آخذاً بمعادلة دقيقة. كانت سهلة ومربكة أحياناً للعهد الشهابي في وجه غلاة معارضيه: تأييد لبنان السياسية الخارجية لمصر التي تترك حكم لبنان لرئيسه.
الوجه الآخر لهذه المعادلة توسّع النفوذ الناصري في لبنان، وأخصّه السفير عبدالحميد غالب الواسع التأثير على الحياة السياسية الداخلية. ورغم جنوح شهاب إلى الغرب لأسباب اقتصادية وثقافية ووجدانية، وتحديداً الفاتيكان وفرنسا والولايات المتحدة، ظلّ نفوذ عبدالناصر يطبع مسار السياستين الداخلية والخارجية للبنان، على نحو حمل ماير على الإضطلاع بدور مناوىء لأي محاولة تجديد انتخاب شهاب. تذرّع أمام بعض السياسيين بأن الرئيس يسيء إلى الديموقراطية والنظام البرلماني باعتماده إصدار القوانين بمراسيم اشتراعية أو وفق المادة 58 من الدستور تجاوزاً لمجلس النواب. لكن شهاب رفض التجديد وأمّن خلافته بمن شعر أنه يحظى بثقته هو شارل حلو في 18 آب 1964.
غابت واشنطن عن لبنان عقد ستينات القرن الماضي، وأعرضت عن التدخل في انتخابات الرئاسة عام 1970. مات عبدالناصر وأصبحت المقاومة الفلسطينية، بترسانتها العسكرية ووجود قادتها على اختلاف فصائلها بديلاً عربياً نافذاً في المعادلة اللبنانية، رجّح كفة فريق على آخر. إذذاك وجدت سوريا سانحة الإضطلاع بدور مماثل في لبنان. ونتيجة للتوازن السياسي الجديد، الناشىء تدريجاً منذ عام 1968، انفجرت الحرب اللبنانية.
على أبواب انتخابات الرئاسة عام 1976، أوفد الرئيس جيرالد فورد موفداً خاصاً إلى لبنان هو دين براون، لمهمة ظاهرها إستطلاع وجهات النظر المتعارضة، وباطنها تسهيل إجراء انتخابات الرئاسة، في حمأة «حرب السنتين»، المشتعلة بين فريق من المسيحين والفلسطينيين، وبين ياسر عرفات وحافظ الأسد. وعلى غرار الإحتراف الديبلوماسي الذي طبع مهمة مورفي، أجرى براون، المتمرس والواسع الإطلاع على أزمات الشرق الأوسط وذو الطويل الباع في المفاوضة، فور وصوله إلى بيروت في 31 آذار 1976، مشاورات مع الزعماء الممثلين للأفرقاء اللبنانيين. لاحظ أن الترشيح للرئاسة يقتصر على إثنين: الياس سركيس تدعمه سوريا و»الجبهة اللبنانية»، وريمون إده تدعمه «الحركة الوطنية» بزعامة كمال جنبلاط المتحالف مع عرفات. كان الأخير دخل منذ 21 آذار في مواجهة حادة وقاتلة مع سوريا. أجرى براون حوارين طويلين مع إده وسركيس خلص منهما إلى تأييد الثاني. رمى حواره مع «العميد»، في 3 نيسان، إلى كشف مغزى ما تريده واشنطن من الإستحقاق. أبدى له دين استعداداً لتأييد وصوله إلى الرئاسة شرط معرفة إمكاناته وخياراته لوقف العنف في لبنان وإعادة فرض القانون. ردّ إده بالإستعانة بقوى الأمن والدرك على غرار تجربته في وزارة الداخلية بعد «ثورة 1958». لم يقتنع محاوره. قال إده بالجيش. ردّ براون أنه منقسم على نفسه. استعان إده بذاكرته واستعداده لتكرار تجربة شمعون بطلب مساعدة مشاة البحرية الأميركية. دحض براون الإقتراح، مؤكداً أن حكومته لن تتدخل في لبنان. قال إنه يذهب إلى الأمم المتحدة للإستعانة بقواتها لأن لبنان عضو فيها. أوصد براون الأبواب: لن ترسل إلى لبنان قوات، وستستخدم واشنطن الفيتو لمنع ذلك.
بلغ الحوار الحائط المسدود إلى أن فتح براون ثغرة بقوله: «لماذا لا توجّه نداء إلى الجيش السوري لمؤازرتك؟ قد يكون هو الحل». ردّ إده: «في هذه الحال لا يمكنك الإعتماد عليّ. لا تتوقع مني استخدام الجيش السوري لفرض الأمن في لبنان». كرّر الإقتراح، فكرّر الرفض قائلاً: «إذا كنتم، أنتم الأميركيون، قرّرتم ذلك شرطاً ضرورياً، فإنني أستطيع تزويدك لائحة بـ50 شخصية مارونية تقبل ما تريدون. الياس سركيس يوافق فاذهب اليه».
من الصنائع انتقل براون إلى مقابلة سركيس ـ ولم يكن قد ترشّح رسمياً بعد ـ وسمع منه الموقف الذي يريده: «ليس في مقدور الرئيس الجديد فرض القانون والإستقرار في لبنان، بلا الإستعانة بالجيش السوري».
في 9 أيار انتخب سركيس رئيساً. وفي 30 منه دخل الجيش السوري لبنان من عكار. وفي اليوم التالي زحف على البقاع. ثمناً لتدخّل واشنطن، خُطِف سفيرها في بيروت فرنسيس ميلوي في حزيران، بعد شهر وأربعة أيام على وصوله إلى بيروت، بعدما خطفه مسلحون فلسطينيون قتلوه وألقوا بجثته على الطريق.
ما أن وضعت الحرب اللبنانية أوزارها في عهدة الحل العربي في قمتي الرياض والقاهرة اللتين ناطتا بالجيش السوري، في إطار قوة الردع العربية، إعادة الإستقرار إلى لبنان حتى عاد الدور إلى السفير: ريتشارد باركر (1977 ـ 1978) وجون غونتر دين (1978 ـ 1981) وروبرت ديلون (1981 ـ 1983). كان مهمة الثاني أكثر تعقيداً لاهتمامه بإثبات دعم واشنطن شرعية سركيس والوقوف في وجه أعتى مناوئيها حينذاك من سمّاه «الأزعر»، بشير الجميل الذي بدأ صعوداً سياسياً مذهلاً. حجب غونتر دين عن بشير تأشيرة سفر لزيارة واشنطن والإجتماع بمسؤولين أميركيين عام 1978، وقاطعه موجّهاً إليه انتقادات حادة، إلى أن سلّم بالإنفتاح عليه بإصرار من رئيس الجمهورية الذي تصالح وقائد «القوات اللبنانية». تدريجاً نجحت علاقات الرجلين، ولم يتردد غونتر دين، دونما تخليه عن استمرار تأييد سركيس ولا استفزاز وجود سوريا في لبنان الذي كان لا يزال يحظى بتأييد واشنطن، في تفهّم مبرّرات إشعاله «حرب زحلة» بين الميليشيا المسيحية والجيش السوري عام 1981. مع تصاعد هذه الحرب، استعادت واشنطن الدور من السفير إلى المبعوث الخاص ــــ اللبناني ــــ الأصل فيليب حبيب حضر إلى لبنان وفكك نزاع الطرفين الذي أوشك أن يصبح حرباً إسرائيلية ـــــ سورية بعدما نجح بشير في استدراج الدولة العبرية إلى الصراع اللبناني، ونشر سوريا صواريخ أرض ــــ جو في البقاع. من دون هذا الإستدراج لم يكن ليحقق بشير حلم الرئاسة.
كانت تلك توطئة علاقات مثيرة للجدل ستنشأ بعد أشهر، وتفضي إلى تحوّل أميركي لا نظير له في علاقتها بدولة شرق أوسطية: أن تدعم ترشيح قائد ميليشيا كان عدواً لها وللشرعية اللبنانية التي نؤيد للرئاسة، وكادت تقتنع أنه الأقدر على حماية مصالحها في لبنان. فرض بشير نفسه قائداً عسكرياً وزعيماً مسيحياً. كانت عواصف خطيرة قد ضربت لبنان عام 1982: اجتياح إسرائيلي بلغ أبواب بيروت، خروج الجيش السوري من بيروت والجبل إلى البقاع، خروج ألوف المسلحين الفلسطينيين، انتشار بضعة ألاف من قوات أميركية وفرنسية وإيطالية في إطار قوة متعددة الجنسية. خارت قوى «الحركة الوطنية» بعدما فقد وليد جنبلاط ونبيه بري حليفيهما السوري والفلسطيني. كان طبق الرئاسة جاهزاً. لعب فيليب حبيب دوراً بارزاً في إقناع السعودية وزعماء مسلمين ونواباً في تأييد بشير الذي انتخب في 23 آب 1982. لم يطل الأمر. اغتيل في 14 أيلول، وخلفه شقيقه أمين في 21 منه.
كانت الأشهر القليلة من علاقات ذهبية أميركية ـ لبنانية مناسبة لتسجيل سابقة أيضاً. اجتمع رونالد ريغان بالجميل في ثلاث قمم خلال 14 شهراً، بين تشرين الأول 1982 وكانون الأول 1983. أخفق الرئيس في حكم لبنان، وفي تحقيق سلام لبناني ـ إسرائيلي في حمأة معارضة مسلحة قادتها سوريا وجنبلاط وبري وانتهت بانهيار السلطة المركزية لرئيس الجمهورية في «حرب الجبل» عام 1983. انسحبت القوة المتعددة الجنسية تدريجاً. كانت قد نشأت خلايا مسلحة أصولية دمرت مقراً المارينز في تشرين الأول، بعد تدمير سفارة عين المريسة نيسان سنتذاك. فإذا بالأميركيين يخرجون من لبنان نهائياً بعد قصف حاملات طائراتهم ميليشيا جنبلاط في الجبل، وكان بعض رعاياهم ومن دول أخرى استهدفوا قتلاً أو خطفاً. عندئذ قال وزير الخارجية جورج شولتز إن لبنان أشبه بـ»طاعون» يقتضي الحجر عليه. كان قد تعاقب سفيران هما ريجينالد بارثولوميو (1983 ــــ 1986) وجون كيلي (1986 ـ 1988) الذي أُبعد بذريعة صحية، تبيّن أن دوافعها سياسية، هي انحيازه إلى الفريق المسيحي.
خسرت أميركا رهانها، فأعادت لبنان إلى حضن الرعاية السورية، مع عودة الجيش السوري إلى بيروت عام 1987.
بضع محاولات لإعادة الإستقرار إلى لبنان راقبها الأميركيون: جهود السفير السعودي في واشنطن بندر بن سلطان ورجل الأعمال السعودي، اللبناني الأصل، رفيق الحريري لإعادة الحوار اللبناني الداخلي واللبناني ـ السوري انتهت إلى مؤتمري جنيف (1983) ولوزان (1984). ثم دخول سفير الإمارات في لندن مهدي التاجر وهاني سلام على خط وساطة لبنانية ـ سورية. تلتها اقتراحات عرضها عام 1987 الحريري ومديرة دائرة لبنان وسوريا والأردن في الخارجية الأميركية إبريل غلاسبي بتشجيع من مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ريتشارد مورفي. كانت البلاد على مشارف نهاية ولاية الجميل.
قبل أربعة أيام من انقضاء الولاية، قصد ريتشارد مورفي دمشق في 18 أيلول 1988، واجتمع بالأسد ساعات طويلة في حوار حول مصير لبنان. قالت واشنطن بانتخاب رئيس جديد، وقالت دمشق بإصلاحات دستورية تفضي إلى تسوية سياسية. كان التنازل الكبير الذي منّن مورفي اللبنانيين به لدى عودته من دمشق إلى بيروت، أنه أقنع الأسد بأولوية الإنتخاب على الإصلاحات بعد جهود مضنية. لكن الثمن مكلف: سوريا تسمّي الرئيس الجديد وهو واحد، هي التي ترشّحه. سأل مورفي الأسد مَن يكون. أحاله على نائبه عبدالحليم خدام الذي سمّى مخايل ضاهر رئيساً. رفض الجميل وبطريرك الموارنة مارنصرالله بطرس صفير وقائد الجيش العماد ميشال عون وقائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع وسياسيون استبعدهم الترشيح. أجابهم مورفي: لا خيار. مخايل ضاهر أو الفوضى. تحققت هذه عندما أخلى الجميل قصر بعبدا ليل 22 أيلول من غير أن يسلّمه إلى رئيس يخلفه. ألّف حكومة عسكرية انتقالية برئاسة عون.
لم تستجب واشنطن استدراج عون إياها إلى «حرب التحرير» التي خاضها ضد الجيش السوري في 14 آذار 1989. ناوأته، فنظم أنصاره تظاهرة ضد سفارتها في عوكر في 21 نيسان، أفضت إلى إقفالها وإخلائها في 6 أيلول بعد ساعات من محاصرتها سلماً. وبدأ الأميركيون يتحركون من الخارج. تفاقم الصدام العسكري بين المناطق المسيحية والجيش السوري، فتدخّل العرب بتأييد أميركي، انتهى بتسوية الطاتف في تشرين الأول. بعيداً من الأنظار راقب أحد ديبلوماسيي السفارة في بيروت دافيد ساترفيلد مداولات النواب على نحو أزعج دمشق، فطلب منه وزير الخارجية السعودي سعود فيصل مغادرة الطائف. بعد اتفاق الطائف وانتخاب رينه معوض رئيساً بموافقة أميركية ـ سعودية ـ سورية عكست توافقاً دولياً وإقليمياً على إخراج لبنان من دائرة الصراع. كان جون مكارثي، السفير الأميركي، وصل إلى لبنان في أيلول 1988 من غير أن يتقدم بأوراق اعتماده من عون، ثم غادر بعد إقفال السفارة، وعاد في 18 تشرين الثاني 1989. اليوم التالي وجد نفسه في موقف لا سابق له لديبلوماسي أميركي: عشية تقديمه أوراق اعتماده إلى معوض، حرّض «القوات اللبنانية» على عون، قائلاً: «بعض الأشخاص يقف في الطريق، وهذا مخيّب للآمال. يفاجئني صمت القوات اللبنانية وصمت الفاعليات في الشرقية. لماذا لا ينتقدون مواقف العماد عون؟».
في 22 تشرين الثاني اغتيل معوّض، فخلفه الياس الهراوي. كان اختياره قراراً سورياً محضاً. سلّم الأميركيون بالخيار ما دام جزءاً من الحل العربي، وإن سمته دمشق. في 31 كانون الثاني 1990 اندلعت حرب المسيحيين على المسيحيين. قتال ضار بين عون وجعجع. قبل أن يُحسم ـ وكان مستحيلاً حسمه ـ قايضت واشنطن سوريا: تأييد طرد الجيش العراقي بالقوة من الكويت في مقابل إطلاق يدها في لبنان. في 13 تشرين الأول 1990 أطيح عون عسكرياً بموافقة أميركية. هاجمه الجيش السوري فلجأ إلى سفارة فرنسا. في 28 تشرين الثاني 1990 أعيد فتح السفارة مع السفير الجديد رايان كروكر الذي قدّم أوراق اعتماده الى الياس الهراوي.
كانت قد بدأت حقبة جديدة سلّمت فيها واشنطن بسيطرة سوريا على لبنان حتى يحين أوان تسوية المنطقة، وكسبت دمشق مباركة الأميركيين عبر تحقيقها استقراره بحجة أن انسحابها منه يعيد إليه الحرب الأهلية. طمأنها الدور السعودي ووجود الحريري على رأس حكومات عقد التسعينات. بعد كروكر (1990 ـــ 1993)، مارك هامبلي (1993 ــــ 1994) الذي لم يطل لأسباب صحية، ثم ريتشارد جونز (1996 ــــ 1998)، فدافيد ساترفيلد (1998 ــــ 2001) أكثر السفراء الأميركيين فجاجة. والأصح أنه قدّم للبنانيين خطاب حكومته بفظاظة عبّرت عنها قسمات وجهه: حاد، غير متساهل، استفزازي وغير متعاون. حضر جملة استحقاقات: انتخاب إميل لحود وانسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان. كان مناوئاً ممتازاً وعنيفاً لحزب الله، رافضاً مقاومتهً، وصديقاً ودوداً للحريري ومؤيداً شرساً لبرنامجه الإقتصادي. خلفه فنسانت باتل (2001 ــــ 2004)، وأخيراً جيفري فيلتمان الذي شهد الإنقلاب الأميركي في لبنان: إصدار مجلس الأمن القرار 1559 في 2 أيلول، إنذاراً إلى سوريا للخروج من لبنان، وطعناً مبكراً بتمديد للحود أقر في اليوم التالي.





فيلتمان: رئيس ينهي الأزمة ولا يُعقّدها هل تعدّ الولايات المتحدة نفسها ناخباً في انتخابات الرئاسة؟
ــــــ بالطبع لا. إن الدستور اللبناني واضح في ما يتعلق بمسؤوليات النواب حول الإنتخابات الرئاسية. لسنا ناخبين، ولن نتدخّل في انتخابات الرئاسة اللبنانية.

  • بعد تأثيرها في انتخابات 1958 و1982 و1988 و1989، هل تجد واشنطن نفسها معنيّة اليوم بدور مشابه في الأزمة الحاضرة؟
    ــــــ لدينا الثقة الكاملة بالبرلمان اللبناني إذا سُمح له بأن ينتخب رئيساً للجمهورية بحريّة، وبعيداً من أي تهويل خارجي، وعملاً بأحكام الدستور اللبناني. في هذه الحال سينتخب البرلمان رئيساً ملتزماً ديموقراطية لبنان وسيادته واستقلاله.

  • كانت واشنطن أول من انتقد التمديد للرئيس إميل لحود قبل القرار 1559 وبعده. الآن وقد انسحب الجيش السوري من لبنان، كيف تجد اليوم دورها لتعزيز الديموقراطية وتداول السلطة في لبنان، وهي التي تدافع عن هذين الأمرين؟
    ــــــ إن الولايات المتحدة تشارك وتنظر بتقدير إلى توق الشعب اللبناني للوصول إلى الحرية والسيادة. وهذه أهداف ـ تؤمن الولايات المتحدة ـ بأن جميع شعوب المنطقة تشارك فيها. لقد وفّرنا المساعدة للبنانيين من أجل تطوير قانون عادل للإنتخاب، ولكننا امتنعنا عن توجيه النتيجة أو التدخّل فيها. يعود الى اللبنانيين أن يحدّدوا بنية قانون الإنتخاب والنظام الإنتخابي الذين يرتأونه أفضل للبنان.
    إن مساعدتنا كانت تقنية بحتة وعزّزت النقاش في قانون الإنتخاب بين أكبر عدد من اللبنانيين. وتهدف هذه المساعدة إلى تعزيز الديموقراطية على نحو يسمح للشعب اللبناني بأن يقرّر مصيره بنفسه. وبتمويل من مبادرة الشراكة الشرق أوسطية (MEPI)، قدمت الولايات المتحدة الخبرة التقنية والقانونية المتاحة لتلبية حاجات اللجنة المكلفة وضع قانون الانتخاب من تكنولوجيا ومعدات مكتبية. كما أن الكونغرس الأميركي أولى اهتماماً كبيراً لدعم الجهود اللبنانية للإصلاح الإنتخابي.
    في تموز 2006 حضر وفد من لجنة المساعدات للديموقراطية التمثيلية ليومين وضم أعضاء من الكونغرس ومساعديهم المحترفين، وتبادلوا الأفكار مع أعضاء من البرلمان المنتخب ديموقراطياً في قضايا تتضمن الإصلاح الإنتخابي.وقد خططوا لعدد من البرامج مع بعض أعضاء البرلمان اللبناني والأميركي لتبدأ في آب 2006 لتعزيز مجلس النواب وزيادة فاعليته وتقديم اقتراحات انتخابية. كما دعمت الولايات المتحدة جهود إصلاح قانون الإنتخاب من خلال قيادة برنامج الزائر الدولي الذي جلب قادة من السياسيين اللبنانيين في جولات دراسية خلال ثلاثة أسابيع لتبادل الأراء والتعــــــلّم من الخبراء الأميركيين. وقد ذهب الى الولايات المتحدة عام 2006 تــسعة قادة من اللبنانيـــــــــين الشباب يمثلون جـــمـــيـــع الأطياف السياسية في لبنان لتبادل الأفكار حول النظام الانتخابي في البلدان الديمقراطية.

  • ما هي المواصفات العامّة التي تعتقد واشنطن أن المطلوب توافرها في الرئيس الجديد لتحقيق انتقال ديموقراطي صحيح؟
    ـــــ يعود إلى أعضاء مجلس النواب وليس الولايات المتحدة تقرير مَن لديه المواصفات الفضلى كي يخدم بلده كرئيس. لكن من أجل أن يحظى هذا الرجل بموافقة البرلمان اللبناني، فإننا نفترض بأن على الرئيس أن يتمتع بصدقية واسعة في أوساط المجموعات اللبنانية المختلفة، ويلتزم استقلال لبنان وسيادته وديموقراطيته.

  • هل أن لواشنطن دوراً بين طرفي النزاع في لبنان لحملهما على إجراء انتخابات رئاسية تحظى بتوافق عام أو تؤدي إلى رئيس توافقي، أم تفضّل الحياد؟
    ــــ نحن بالطبع ندعم حواراً سياسياً بين اللبنانيين. ولكن في ما يتعلق بتسويق مرشح رئاسي معيّن أو آلية تؤدي إلى مرشح رئاسي، فلن يكون للولايات المتحدة أي دور، وستبقى في ذلك على الحياد. نحن نأمل في أن تفعل ذلك أيضاً سوريا وإيران، فلا تتدخلا في آلية انتخاب الرئيس اللبناني الجديد. تقول سوريا وإيران إنهما تلعبان دوراً بنّاءً في لبنان. الآن هو الوقت الملائم كي تبرهنا ذلك، بأن تقفا على الحياد وتستجيبا القرار 1559 الذي يحضّ على إجراء انتخابات رئاسية وفق الدستور اللبناني ومن دون تدخل خارجي.
    على هذين البلدين أن يسمحا للبنانيين بإدارة انتخاب رئيسهم وفق الآلية الدستورية اللبنانية توصّلاً إلى تحقيق الهدف الذي يطلبه الشعب اللبناني.
    واشنطن تعتقد بأن الوقت قد حان لسوريا وإيران كي تعترفا فعلاً وقولاً بلبنان بلداً مستقلاً.

  • كيف تنظر واشنطن إلى العلاقات اللبنانية ــــ السورية من خلال انتخابات الرئاسة اللبنانية؟
    ــــــ لم يشر أي مرشح رئاسي إلى إنه ــــ أو أنها ــــ يريد أن يأخذ لبنان إلى مواجهة مع سوريا. بالأحرى يبدو المرشحون للرئاسة وكأن ثمة قاسماً مشتركاً في ما بينهم هو الحاجة إلى علاقات صداقة وجيدة مع سوريا مبنيّة على الاحترام المتبادل والمساواة بين البلدين. ونحن نسأل لماذا ينبغي الإعتقاد بأن أي مرشح للرئاسة اللبنانية يمكن أن يشكل تهديداً لسوريا؟

  • رغم خروج سوريا من لبنان عسكرياً، لا يزال تأثيرها قائماً من خلال حلفاء لها يمكنهم أن يعطّلوا انتخابات الرئاسة. فهل تتدخل واشنطن لمنع مثل هذا التأثير؟
    ـــــ نحن لا نعمل وحدنا في سبيل دعم لبنان، بل نتعاون مع المجتمع الدولي من أجل الدعوة إلى عدم تدخّل أي دولة في الشؤون اللبنانية، واحترام سيادة لبنان واستقلاله وديموقراطيته. لذلك حضضنا سوريا تكراراً على التزام ما نصّت عليه القرارات الدولية، ولاسيما منها القرارات التي تلزم سوريا عدم التدخّل في العملية السياسية في لبنان، سواء كانت انتخابات رئاسية أو سواها.
    وكما عكس مجلس الأمن بعمله المتكرر، فإن المجتمع الدولي موحّد على فكرة أن اللبنانيين يحتاجون إلى أن يكونوا المسؤولين عن بلدهم. إن الولايات المتحدة فخورة بكونها جزءاً من هذا الإجماع الدولي.

  • يقول بعض أركان قوى 14 آذار إنهم سينتخبون رئيساً للجمهورية بأكثرية الأصوات التي يملكونها من دون التوقف عند نصاب الثلثين، وهم واثقون بأن واشنطن ستعترف فوراً بالرئيس الجديد. فهل تعترفون فعلاً برئيس يختاره فريق من اللبنانيين دون الآخر؟
    ـــ ان كيفية ادارتنا للعمل الدبلوماسي اليومي هو انعكاس لعوامل كثيرة ومختلفة. ليس لديّ جواب حول كيف يمكن أن يكون تعاملنا مع الرئيس المستقبلي لأن هذا الوضع لم ينشأ، ولكننا نعتبر بأن لدينا علاقات ممتازة مع الجمهورية اللبنانية، ونحن نحترم دستورها، ونريد أن نرى لبنان ناجحا على كل الصعد الممكنة. لكنني كما سبق أن عبّرت، فإن الولايات المتحدة واثقة من أن مجلس النواب اللبناني قادر على انتخاب رئـــــــــيس جـــــــــ ديد للجمهورية. ليس من مصلحة أحد، إلى أي فريق انتمى، أن تكون نتيجة الانتخابات الرئاسية أزمة جديدة تضرب لبنان. بل على العكس من ذلك، نريد انتخابات الرئاسة اللبنانية أن تكون نهاية الأزمة الحالية، لا فاتحة أزمة جديدة.
    على أنني أقول أنني أجد النقاش الدائر حول مقتضيات النصاب القانوني هو أمر مثير للإستغراب: إذا أتيحت للبنان أخيراً فرصة أن يكون لديه رئيس منتخب من خلال وسائله الدستورية، ومن دون تدخّل خارجي، فلماذا يكون على أي عضو في البرلمان اللبناني الذي يعمل الأفضل من أجل لبنان، أن يختار الإبتعاد عن جلسة الإنتخاب. أنا أتوقع من الشعب اللبناني، الذي هو في نهاية الأمر المرتكز الأساسي الذي انتخب أعضاء المجلس النيابي الحالي، ان يتوقع هو بدوره من نوابه المشاركة في الإستحقاق الذي هو بالتأكيد أحد أهم المسؤوليات التي تقع على عاتق النواب.