مواسم لم تنضجحسام كنفاني

عرفته طويلاً... اسماً على ورق، أتابعه يومياً بنهم، وأتساءل عن مكنونات هذا الشخص القادر على تبسيط أعقد الأفكار، وتعقيد أبسط الأحداث.
أي عقل يحمل هذا الرجل القادر على قراءة ما بين الأحرف، ورؤية خطط جهنمية من لقاء تقليدي عابر بين مسؤولين.
كنت أحسد كل من حظي بفرصة لقائه والحديث معه. كنت أتساءل كيف يمكن التقرّب منه. لمحته مرة في أحد المؤتمرات السياسية في دبي حيث كنت أعمل، حدثتني نفسي أن أقترب منه لألقي السلام، لكنني جبنت.
خشيت أن أصدم بغرور رجل عايش مراحل التاريخ اللبناني والعربي وصادق رجاله وعمل معهم. تخيّلت أن مكتبات العالم، التي يختزنها هذا الرجل بعقله، لن تسمح له بوقت قصير مع مستجد نسبياً في العمل الصحافي.
... اكتشفت أني كنت حقاً لا أعرفه. وحتى اليوم، وبعدما حققت جزءاً بسيطاً مما كنت أحلم به، ما زلت لا أعرفه.
ثمانية أشهر من معرفته شخصياً غير كافية... لم يكن هذا حلمي. لم يكن هذا أملي حين التقيت به في المرة الأولى للاتفاق على الانتقال إلى لبنان. لم تخبرني بأنك على هذه العجلة، أمّلتني بـ «مواسم كتابة» عندما أخبرتك عن افتقاد قرائك لافتتاحيتك.
كنت محقاً، لكن المواسم لم تنضج بعد، لا يزال أمامنا الكثير من العمل، لا نعلم إن كنا قادرين على مواصلته من دونك للوصل إلى موسم القطاف الذي أردته.



صلاة فوداع
إبراهيم وزنه

قرأت له وتعلّمت منه، قبل أن أعرفه ويعرفني، وهو الغني عن التعريف، ولا أبالغ إذا ما شبهته بأل التعريف التي اذا ما ارتبطت بأي صحيفة اصبحت معروفة جداً.
انه جوزف سماحة الذي أعادني من جديد الى مقاعد الدراسة، والسماحة ليست في اسمه فقط، بل في فعله وعقله وتصرفاته مع الآخرين، تعرفت اليه عن قرب عندما التحقت بركب المحررين لصفحات «الأخبار»، حلم جوزف سماحة والمحطة التي انتظرها طويلاً لمخاطبة العقول المتعطشة للحقيقة والمعرفة، فأنارها بعلمه وبصيرته، وهو القادر على تبديل القناعات بسلاسة جمله وحلاوة عباراته وصلابة مواقفه وميزان منطقه واتزان آرائه... وكل ذلك بـ «خطه الأحمر».
ذات مرة قصدت قاعة الاجتماعات لأصلّي داخلها، فوجدته منكبّاً على كتابة مقاله اليومي، فالتفت نحوي قائلاً «تريد ان تصلي»، وبسرعة وضع قلمه على الطاولة وهمّ بالخروج، فاستوقفته مخاطباً اياه «يمكنك ان تواصل الكتابة وأنا أصلي في زاوية القاعة، وهكذا أنت تعبد الله كتابة وأنا مصلياً». ولما انتهيت من اداء صلاة الظهر توجهت نحوه قاطعاً حبل افكاره وسردت له «خبرية» بغية إدخال السرور الى قلبه، ثم عدت الى زاويتي لأصلي صلاة العصر، ثم غادرت القاعة شاكراً تعاونه وسعة صدره.
وفي اليوم التالي تكرر المشهد عينه، دخول فسلام فصلاة فخبرية فصلاة فوداع... وبعد أيام التقاني في رواق الجريدة، فبادرني «لم أرك تصلي في القاعة منذ يومين؟» فقلت له «ما عندي خبرية حلوة تا خبّرك ياها» فأضحكته إجابتي من كل قلبه. قلبه الذي توقف فجأة، معلناً سباق أحزاننا، ومحركاً أقلامنا الى ميادين الرثاء.



كلّ هذا الغياب
حيفا ـــ فراس خطيب

لم أكن صديقاً شخصياً لجوزف، لكنَّ الحظ حالفني وعملت في صحيفة «الأخبار» مراسلاً من حيفا. تحدثت إليه هاتفيّاً مرّات عدّة مع بدايات صدور الصحيفة «وليدة الحرب» كما قال لي ذات مكالمة. كانت المكالمات قصيرة، لكنَّها أتت بعد سنوات من قراءته شبه اليومية. أذكر يومذاك أنني ارتجفت بحكم «الحديث إلى المثل الأعلى»، لكني هدأت حين ضحك ملء هيبته في المكالمة نفسها وكسر ذلك السد. لم يكن جوزف بالنسبة إلي سؤالاً قدر ما صار إجابة عن «ماذا ستكون مستقبلاً؟».
عند موته شردت لساعتين، أردت أن أخطَّ شيئاً ما عن «محارب يترجّل نحو النوم»، قرَّرت ألّا أشغل نفسي بسؤال الرثاء، لن أسمي ما سأكتبه رثاءً، سأسميه «شيئاً عن جوزف»، لكنني لم أكتب، لا أستطيع الكتابة عن شيء لا أصدقه خوفاً من ابتعاد القلم عن الحقيقة، خوفاً من الوقوع في جبّ الابتذال، لكنّني استوعبت بعد ذلك أنَّ الغياب صار كل الحقيقة، فكتبت... كتبت لأنني ببساطة، أحب جوزف شخصاً وقلماً وموقفاً...حتى لو كان بعيداً.
عند اللوعة، يشعر الإنسان بالجدران. يموت في الحياة ويعيش في قساوتها. يدرك أنَّ الحلم مطوّق، تماماً مثل القلم والرأي والأفق، كل شيء مطوّق. حتى حيفا، توأم بيروت، المكشوفة على بحار العالم، مطوّقة، ونحن في هذه الرقعة المفرغة نشعر بالجدران ونتمنى لو للحظة أن نكون هناك، أن نشم نسيم حلم الماضي الصامد أبداً... بيروت.
كنا نتمنى أن نشعل شمعة إلى جانب صورته ونقول له، حتى لو لم يسمعنا: شكراً، شكراً لذلك القلم الذي لم يترك فلسطين وقضيتها يوماً واحداً في زمن «الاعتدال».



عذراً للاقتباس!
رلى راشد

الرحيل حرفة وغواية وفتنة لا يُدركها سوى قليلين، لكنك كنت في عدادهم بلا شك. عرفت كيف تلتقط نبض الموت فاستبدّ بنبض قلبك. في طرف رواق تآلف مع وقع خطواتك، تطلّ صورك العملاقة وأنت باسم، كأنك تُمازح موتك لأنه باغتك من دون استئذان، ليحول دون رواية مغامرتك اليتيمة معه. ومن طرف رواق مملكة خاصمت الضوء، وصلتَها للتو، ستعرف كيف تُبرق لنا افتتاحياتك، وكيف تلقّننا أبجديّة قراءتها وجفوننا مُسدلة.
معرفتنا تختصرها شذرات تحيّات صباحية وأخرى مسائيّة تهيم في ضوضاء الخبر، وما وراءه، أما غيابها فصمت صاخب. هل طالبت روحك بساعة موتك؟ هل حملتها كالغنيمة في راحتها المُتعرّقة؟ أم هو قلمك يسفك حبراً فأدار ظهره لمن أضناه بآلام المخاض اللامتناهية؟ سترافق الدموع رحيلك، لكنها لن تفلح في إضافة غشاوة على آخر سطورك وهي تترقرق رقصاً في عيون أصدقائك.
يتآكلني الندم. لقد تأخرت في معرفة الخبر، فاعذرني إن لم يكن توقيتي صائباً (واعذرني مرة أخرى للاقتباس).



استمرار التعازي والحص يزور «الأخبار»
إنه اليوم الخامس على رحيله المفاجئ، وسيل المعزّين بجوزف سماحة لم يتوقف بعد، ومن أبرزهم الرئيس سليم الحصّ الذي زار مكاتب “الأخبار” معزياً. كما أبرق الى “الأخبار” معزياً كل من: النائب آغوب بقرادونيان، سفارات الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكويت وتونس لدى لبنان، اتحاد المصورين العرب، المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، تجمع أطباء لبنان، جامعة بيروت العربية، جامعة البلمند، الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية، المجلس الوطني للاقتصاديين اللبنانيين، رئيس مجلس إدارة “فرست ناشيونال بنك”، إلهام سعيد فريحة، رئيس مجلس إدارة مجلة “عالمنا”، شركة “آراء”، والطلاب الشيوعيون اللبنانيون في جامعتي “اللبنانية ـــــ الأميركية” و“اليسوعية”.
وأبرق رئيس مجلس إدارة جريدة “النهار” النائب غسان تويني معزياً بسماحة الذي هو “من الذين يتماهون في وجودهم مع القضايا التي يكرّسون أنفسهم لها”.
كما أمّت مكتب “الأخبار” في شتورا شخصيات وقيادات سياسية وحزبية ونقابية وثقافية واجتماعية وتربوية معزية بوفاة سماحة. وتلقى المكتب برقية تعزية من “حركة لبنان العربي”، جاء فيها: “لقد افتقدت الصحافة والثقافة قلماً ساحراً وغزيراً.. جوزف سماحة عملاق رحل.. خسره الوطن والأمة والقضية الفلسطينية التي كان من أشدّ المدافعين عنها.. كل العزاء لأسرته العائلية والصحافية”.
من جهة ثانية، تلقّى وزير الإعلام غازي العريضي برقيتي تعزية بسماحة من وزير الإعلام الكويتي بالوكالة بدر ناصر الحميضي، ووكيل وزارة الإعلام الكويتية فيصل خليفة المالك الصباح.



أرغفة القرّاء
فيرا يمّين

جوزف سماحة، سماحة الأستاذ الذي لطالما اعتصم في صمته وأطلق الصوت المدّوي عبر حبره، تُفلفش صفحات الجريدة بسرعة أو بعض تأنٍّ، لتعود فتركن الى مقالته التي يصوغها من حسٍّ تحليلي وقدرة لغوية وبُعدٍ وطني. وتعيد قراءة ما يكتب أحياناً أكثر من مرة لتعرف أكثر ولتتعلم أكثر، فالرجل اختبر الحياة السياسية وعجنها وقدّم مقالاته أرغفة إلى القراء التوّاقين إلى إدراك السياسة في لبنان وفقه غرابتها وتبدّل أشخاصها بتبدّل الموازين والقوى.
جوزف سماحة الطويل القامة والبال، المتواضع تواضع قمح سهول عكار، غابَ في ضباب لندن التي قصدها زائراً ليرجع منها الى تراب الأرض الخائف على ترابها والباحث عن صيغة تحميه لأهله من أهله قبل غيرهم.
عجباً، كيف للإنسان أن يعرف وهو الهارب دوماً من الرحيل والمختبئ من العمر، كيف له أن يعرف أنه راحل فيكتب وصيته من غير أن يعرف أنها وصية، مقالان للأستاذ، أول للمعارضة وآخر للموالاة، فيهما وصية وتوصية عسى المعارضة والموالاة تعودان اليهما فيتحوّل المقالان الى مبادرة، مبادرة من داخل تمثّل مدخلاً إلى توافق وتوفيق بين الطرفين فيزهو حبر جوزف سماحة ويسنبل قمح سلام من غير استسلام للقلق والخوف.



أقنعني برحيلك
راجانا حميّة

أهرب منك إليك يا «جو»، أترك وجهك المعلّق في الجريدة وأذهب إلى البيت علّي أنسى تفاصيلك الجميلة، لكنّي لا أجرؤ على النسيان، فأعود في اليوم التالي وبي نهم لتلك الشامة على خدّك الأيسر. لكن أهكذا علّمتني أيّها الرفيق، أن أهرب من الإدمان إليه؟ ليس هذا عهدي بك. صحيح أنّك علّمتني أن أتماسك في لحظات الضعف، إلاّ أنّك نسيت أن تعلّمني كيف أقف أمام رحيلك الأنيق.
أما آن الأوان أيّها الرفيق للعودة إلى مدينتك التي احببت، إلى المدينة التي غدرت بها لحظة توقّف قلبك النابض بمقاومتها خارج أسوارها، أما آن الأوان لتعرف مدى اشتياقي لابتسامتك الخجولة، لجولاتك المسائيّة على الأقسام تتفقّد مشروعك، لنظاراتك... أنا لا أريد يا جو أن تتركها، لا أريدك نائماً بدونها، أخاف على عينيك من التعب.
...صدّق يا جو، واسمح لي أن أناديك بهذا الاسم، أنّني أكرهك اليوم بقدر ما أحببتك في حياتك، أكرهك لأنّك اخترت أن تنام من دون أن تطمئنّ إلينا، أكرهك لأنّك اخترت الرحيل من دون أن تحدّد موعد العودة. أكرهك لغدرك، هل استطاع يا جو الموت أن ينال من عزيمتك؟ هذه ليست طبائعك! لا يحقّ لك الاستقالة؟ عليك أن تعود، لكن من دون «الصندوق الخشبي. عدني بأمّك سيسيليا بأن تتركه هناك، في بلدهم.
...جو، إن كنت قد فضّلت الموت على العودة إلينا، فعُد على الأقلِّ مرّة واحدة، استأذن ملائكتك، أريدك أن تكتب للمرّة الأخيرة مقالاً تقنعني فيه بحكمة رحيلك، أقنعني أيّها «الحبيب» بمراسم النسيان.
وداعاً يا معلّمي، اخترت الرحيل قبل أن آذن لك، لكن أما كان عليك أن تدعني أرى الشامة قبل انسحابك؟



يعرفك الصامدون جنوباً
داني الأمين

كلهم يعرفونك يا «جوزف»، أبناء عيتا الشعب وبنت جبيل ومارون الرّاس... كيف عرفوك، وهم تحت الاحتلال، ومن ثم العدوان؟
من داخل منزله المشوّه بالقذائف، قال عبد الله ناصر، ابن عيتا الشعب، «كلّنا فقدنا جوزف سماحة. نريد أقلاماً تدافع كالصواريخ». أما أحد أطباء بنت جبيل فيقول: «أشعر بأنني فقدت جزءاً من أفكاري»؛ وآخر يقول «أشعر بيتمٍ سياسيّ كنت أملأه بقراءة افتتاحيات جوزف سماحة»، فيما تقول طالبة صغيرة من بلدة الطيبة: «قال لي والدي إنّ هذا الرجل كان مقاوماً من نوع آخر».
ليس المثقّفون وحدهم يعرفونك يا جوزف، ولا حتى القرّاء، بل الصامدون هناك أيضاً، على الحدود وقبالة فوّهات المدافع، أو تحت الركام.